لا يمكن اعتبار الاستقالة المفاجئة لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وإعلانها من الرياض، مجرد قفزة في الهواء، بل هي ثورة لأحد رموز القيادات السنية البارزة في لبنان على جمهورية «حزب الله»، ذراع إيران في المنطقة، بعد أن ثبت للجميع أنه المتحكم الرئيس في مصير الدولة اللبنانية.

ولا شك في أن الصرخة التي أطلقها الحريري مؤخراً في وجه حسن نصرالله، هي صرخة سنية بامتياز، تفتح الباب على جميع الاحتمالات، ولا يمكن استبعاد مسألة تعقيدات المشهد اللبناني المعقد والهش من الأساس.

الحريري حرص من خلال قراره الأخير الجريء على تصحيح أخطاء الماضي حينما وجه اتهامات صريحة وواضحة إلى إيران و«حزب الله» بشأن الأوضاع في بلاده.

أخطاء الحريري منذ استشهاد والده رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري بتفجير استهدفه في فبراير 2005، لم يكن أولها ذهابه إلى الرئيس السوري بشار الأسد واجتماعه معه في قصر الشعب في دمشق، قبل 7 سنوات، وليس آخرها قبوله رئاسة الائتلاف الحكومي الهش الذي شكل قبل أشهر، ورضاه التام عن التطبيع مع نظام الأسد، مروراً بحسن نيته تجاه «حزب الله» عندما صارح حسن نصرالله سراً قبل سنوات عن توجيه اتهامات إلى عناصر في حزبه بالتورط في اغتيال والده الحريري الأب، وظن الابن أن نصرالله سيتعامل بحكمة مع الأمر، إلا أن الأخير سرعان ما ظهر على الفضائيات ليكشف ما أعلنه له الحريري الابن، في محاولة لتصغيره كرمز للسنة أمام الرأي العام اللبناني.

وقد تنبأ الرئيس اللبناني السابق ميشال سليمان بشكل غير مباشر في حواره الحصري الأخير مع صحيفة «الوطن» بحقيقة المشهد الضبابي في لبنان عندما قال: «أتمنى ألا يكون هناك انزعاج سعودي من حكومة الحريري»، وذلك في معرض رده على سؤال حول تدخلات إيران في لبنان وتصريحات الرئيس الإيراني حسن روحاني حول دور طهران في عدد من دول المنطقة، وقد اعتبرها ميشال سليمان تصريحات غير لائقة سياسياً، وحمل حكومة الحريري خطأ عدم الرد على تلك التصريحات وهو الأمر الذي دعا وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان إلى شن هجوم لاذع على طهران و«حزب الله» عبر حسابه بموقع التواصل الاجتماعي على «تويتر»، وهو الأمر الذي فسره سليمان على أن تغريدات السبهان كانت الرد على تصريحات روحاني بعد صمت الحريري.

ولا يمكن الآن التأكد من حقيقة إجماع القوى السياسية اللبنانية على التهدئة بعد قنبلة الحريري في وجه طهران و«حزب الله»، خاصة بعد توقعات السبهان، عبر حسابه على «تويتر» والتي قال فيها إن «لبنان بعد الاستقالة لن يكون أبداً كما كان قبلها، ولن يقبل أن يكون بأي حال منصة لانطلاق الإرهاب إلى دولنا وبيد قادته أن يكون دولة إرهاب أو سلام».

وقد كشفت إستراتيجية نفي مسألة محاولة اغتيال الحريري من قبل المؤسسات الأمنية اللبنانية كيف أن تلك الأجهزة تعد جزءاً من المنظومة الأمنية لـ «حزب الله» في لبنان، خاصة بعدما أكدت مصادر غربية، رصد محاولات تشويش تعرض لها موكب الحريري في بيروت قبل أيام من إعلان استقالته. وذكرت المصادر أن التشويش كان ناجماً عن أجهزة مختصة لتعطيل وإرباك أجهزة الأواكس والرادار، تبين أنها إيرانية الصنع، قائلة إن تعقب الأجهزة كشف قيام القائمين على الرادار بجولات مسح أخرى على مواكب الحريري البديلة والتمويهية. وقبل ساعات من تلك التفسيرات ذكرت صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية أن وكالات مخابرات غربية حذرت الحريري من محاولة لاغتياله يتم الإعداد لها.

وقد حرص الإعلام السعودي على بث مقابلة خادم الحرمين الشريفين العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود والحريري في الرياض، ليضع حداً للشائعات والمزاعم التي أطلقها حسن نصرالله حول وضع الحريري قيد الإقامة الجبرية أو توقيفه في السعودية. كما يتضح إعلان وسائل الإعلام السعودية عن أن السفير السعودي الجديد لدى لبنان وليد بن محمد اليعقوب قد أدى اليمين أمام خادم الحرمين الشريفين في السعودية، دليل آخر على عدم نية السعودية الانسحاب من المشهد اللبناني، بل ستتعامل الرياض مع المواقف الأخيرة لطهران و«حزب الله» في لبنان على أساس حسابات المواقف، خاصة وأن التهديدات الإيرانية للبحرين والسعودية ودول الخليج بوجه خاص وللعرب بوجه عام لا تتوقف عند لبنان بل تمتد إلى سوريا والعراق وأخيراً من خلال صواريخ المتمردين الحوثيين على مناطق إستراتيجية وحيوية في السعودية.

لكن الأمر الذي يدعو للسخرية مزاعم نصرالله حول استقالة الحريري وتفسيره لها على أنها «قرار سعودي أملي» عليه، على حد زعمه. وتناسى نصرالله أنه يبقى دمية في يد إيران وتكفيه تصريحات روحاني الأخيرة حول سيطرة بلاده على مراكز صنع القرار في عدد من العواصم العربية بينها بيروت.

ولم يوافق الرئيس اللبناني ميشال عون حتى الآن على استقالة الحريري. وأكد مصدر في القصر الرئاسي أنه «ينتظر عودة الحريري إلى لبنان لمعرفة الأسباب واتخاذ القرار». وفي نوفمبر 2016، كُلف الحريري، برئاسة الحكومة بموجب تسوية سياسية أتت بحليف «حزب الله» الأبرز ميشال عون إلى سدة رئاسة الجمهورية بعد عامين ونصف العام من الفراغ الرئاسي، وتلك كانت أحد أخطاء الحريري بقبوله تلك التسوية «التي أخرجت السنة من الباب الشرقي»، على حد قول البحرينيين في مثلهم الدارج.

ومنذ التسوية التي أوصلته إلى سدة رئاسة الوزراء وتشكيله الحكومة في أواخر 2016، شهد لبنان هدوءاً هشاً، وكأنها نار تحت الرماد، حتى وإن تراجعت حدة الخطاب السياسي اللاذع. وهنا يتبين أن الحكومة اللبنانية التي شكلت أواخر العام الماضي في اتفاق سياسي هش لم تنهِ مأزقاً استمر سنوات رغم إعلانها الشهر الماضي أول ميزانية للبنان منذ 2005.

* وقفة:

ثورة الحريري على «جمهورية حزب الله»، صرخة سنية في وجه حسن نصرالله بعدما تبين للجميع أن إيران تتحكم عبر تسليح الحزب وسلاحه بالبيت اللبناني من بابه إلى محرابه!!