* "مملكة العطور".. رائحة "العتر" من مصر

القاهرة – عصام بدوى

عطر امرأة.. وعطر وطن.. وأحيانا عطر للذكريات، رائحة قد تقودك لأوطان أو تستدعى بخيالك ملامح لامرأة ما، أو ربما تعود بك للماضى الجميل، ما أجملها من قدرة وسحر تتميز بها تلك العطور.. لكن هل فكرت ولو لوهلة من أين تأتى تلك العطور؟



تلك السطور القليلة سنأخذك من خلالها كما يخطفك العطر من عالمك فجأة، لتجد نفسك بين غيطان من الزهور فى قرية مصرية صغيرة، ينبع منها زيوت صُنعت بها أفخر عطور فرنسا، والتى يتهافت عليها أغلب من يقدرون الجمال.

فعلى بعد ما يقرب من ساعة ونصف من القاهرة، تقع قرية تُدعى "طنسا الملق"، إحدى قرى محافظة بني سويف، والتى تُلقب بـ"مملكة العطور"، بسبب انتشار زراعة نبات "العتر"، والذي يُصدر معظمه فى صورة زيوت خام إلى معظم عواصم دول أوروبا، وخاصة فرنسا، وألمانيا، وهولندا، والمملكة المتحدة، كما يتم تصديره أيضاً إلى روسيا والولايات المتحدة الأمريكية.

مراحل عديدة، تبدأ بزراعة تلك النبتة "العتر" إلى أن تصل للمنتج النهائي، وهو الزيت المستخلص منها، تمهيداً لتصديره كمادة خام لتخرج لنا فى النهاية أجود العطور الفرنسية.

فى البداية، يقول الحاج عويس علي، أحد مزارعي العتر، إن زراعة العتر فى القرية بدأت سنة 1975، وجاءت الفكرة عن طريق حليم بك، الذى كان يعمل مديراً لشركة النباتات الطبية والعطرية بالهرم، وكانت له عزبة تقع فى زمام مركز ناصر بمحافظة بني سويف، وبناء عليه تناقل الأهالي التقاوي، لتنتشر بعدها زراعة هذا النبات بعد ذلك، وعن طريق الشتلات.

وأضاف، يزرع العتر فى الأرض الطينية والجبلية، وذلك بعد حرث وتسوية الأرض مصاطب عرضها 25سم، وتسميد التربة بالسماد العضوي، بالإضافة إلي جوالين "سوبر فوسفات"، ثم غرس الشتلات، ويبدأ ذلك فى أواخر شهر أكتوبر وأوائل نوفمبر، ليأخذ نبات العتر دورته فى الأرض 7 شهور، ثم يتم حصاده فى شهر يوينو.

ويقول الحاج طه سعيد، صاحب مزارع، إن "زراعة العتر منتشرة بمركزى الوسطى وناصر التابعين لمحافظة بنى سويف، وتعتبر من أهم الزراعات القائمة عليها هنا، حيث تبلغ زراعة العتر 30% من مساحة المركزين، وتقدر بـ 50 ألف فدان، كما يوجد 35 مصنعًا، موجودين بجوار تلك المساحات لعصر الزهور وتحويلها لزيوت خام".

وأضاف، أن "إنتاجية الفدان فى الأرض الجديدة "المزروعة لأول مرة"، تبلغ 40 كيلو عتر مصفى، ويقدر سعر كيلو زيت العتر بنحو 380 جنيهاً "8 دنانير"، وهو سعر متدن للغاية، مقارنة بأسعاره الحقيقية، وذلك لأن سعر الزيت يتحكم فيه المصدرون، حيث يحتكر سوق التصدير شخص واحد أو اثنين فقط فى مصر، الأمر الذي يضع المزارعين تحت رحمتهم".

ويقول على طه، صاحب مصنع لتقطير العطر، إنه "بعد حصاد نبات العتر، يتم "تكويم" العشب فى كومات صغيرة فى مكان مظلل لمدة 24 ساعة حتي يذبل، ليدخل مصنع التقطير، وهو مصنع عبارة عن غلايات ضخمة وعصارة، يوضع بها العشب ليدخل في عملية التبخير المباشر، ولا تزيد مدة التقطير عن 3 ساعات، بداية من عملية التكثيف".

وحذر من "ضرورة مراعاة أن يكون الضغط البخارى مناسباً، فلا يكون مرتفعاً، فيؤدى إلى حرق العشب، وينتج زيت محروق غامق اللون أو منخفض أو زيت أخضر له رائحة غير مقبولة، فاللون المطلوب للزيت هو الأصفر الفاتح، وهو ذو رائحة مميزة".

وأضاف، "يجفف الزيت الناتج من التقطير بفصله عن الماء باستخدام أقماع الفصل، ويترك الزيت طوال الليل ثم يرشح، ويعبأ بعدها فى عبوات مناسبة من الألمونيوم أو البلاستيك، لكن يراعى ملء العبوة تماماً بالزيت، ولا يترك فراغات لاستبعاد تفاعل الزيت مع أكسجين الهواء الجوي، ثم يحفظ الزيت بعد ذلك فى مكان بارد وجاف.

وذكر أن "خام الزيت المصري يعد أجود أنواع الخامات، التى تدخل فى صناعة أجود العطور الفرنسية الـ "برفيوم"، حيث تنافس مصر به الصين وتونس".

وأشار طه إلى "معاناة المزارعين، بسبب قلة المقابل المادي الذي يحصل عليه الفلاح، مقابل ما يجنيه المصدرون لزيوت العتر، وأن أصحاب المصانع أيضاً يواجهون مشكلة الضرائب التي تتراكم عليهم بدون تقدير"، واصفًا تلك الضرائب بـ"الاعتباطية"، لأن المصنع "يعمل لمدة 30 يوماً في السنة"، لذلك أغُلقت العديد من المصانع بالمركزين، بسبب الضرائب الباهظة وارتفاع أسعار المازوت.

ويناشد أهالى القرية، الحكومة المصرية، "لإنشاء غرفة تجارية لحمايتهم من احتكار المصدرين"، حيث إن المصدرين يحتكرون سعر زيت العتر، ويتلاعبون بالمزارعين البسطاء، مطالبين الحكومة بفتح باب التصدير مباشرة من المزارعين، وإنشاء جهة حكومية مختصة بتصدير زراعات الفلاح لتتواكب مع الأسعار العالمية.