ارتسمت علامات الحزن والأسى على وجوه الآلاف من العاملين والباحثين في الحقل الإعلامي في كل بلادنا العربية خلال الأيام الماضية لرحيل رائد وعالم جليل وصاحب مدرسة علمية إعلامية متميزة وهو الأستاذ الدكتور مختار التهامي الذي عرف بأخلاقه الحميدة وعلمه الفياض الذي نهل منه الكثيرون لأكثر من نصف قرن على امتداد وطننا العربي.

لقد استطاع عالمنا الراحل بخصاله الطيبة وعلمه المتميز أن يمثل قدوة في العلم والوطنية لأربعة أجيال متعاقبة من باحثي علوم الإعلام والاتصال وممارسيه، حيث علمهم الوطنية والعروبة قبل أن يعلمهم علوم الإعلام لإيمانه أن الإعلامي غير الواعي أخطر على مجتمعه من أعداء هذا المجتمع لأنه يسيء للمجتمع دون أن يدري، ولذا كان التهامي حريصاً على تعليمهم الهوية الوطنية بجانب الهوية العلمية، فجمع حوله إعلاميين وباحثين ذات مرجعيات فكرية متعددة، ما بين الليبرالي والاشتراكي والناصري، وغيرهم كلهم كانوا يقصدون لقاءه الأسبوعي في هيئة خريجي الصحافة بمصر، والذي كان منتخباً كرئيس لمجلس إدارتها لأكثر من ثلاثين عاماً وشرف كاتب هذه السطور أن يكون بجواره بها كأمين لصندوقها وعضواً لمجلس إدارتها.

غن التهامي من الأشخاص الذين أنار الله قلوبهم وزرع فيهم حب الخير للناس وإفادتهم فقد سير الله تعالى الخير للآلاف من الباحثين على يديه وكان يدفع بهم للأمام ويشجعهم ولا يخجل أن يقول إنه تعلم من تلميذه شيئاً فكان حريصاً على تكبير طلابه باستمرار وبناء شخصيتهم، ولذا ما كان هاتفه يتوقف عن الاتصال هذا من البحرين، وذاك من السعودية، وثالث من العراق، جميعهم يتصلون به ليطمئنوا على أستاذهم الذي شكل لهم نموذجاً وقدوة يصعب تكرارها.

لقد أثر التهامي أن يعيش زاهداً لمتع الدنيا، رضي أن يعيش دون بزخ رغم كثرة الإغراءات والعروض.. فقد كان يحترم علمه ولا يجعله سلعة ويحترم نفسه ويحافظ على كبريائه الذي عرف به، فكان أشبه بالخليل ابن أحمد الفراهيدي «الذي أكل الكثيرون بعلمه وهو كان يعيش في خص في بغداد».

كما آمن التهامي بثوابت حياتنا العربية وفي مقدمتها الدفاع عن عروبة مصر وقوميتها ودورها في مساندة شقيقاتها في التحرر الوطني وآمن بأن أمن مصر من أمن الدول العربية وأن مصر هي سند لكل العرب ورأي أن ذلك واجباً وإلزاماً وليس ترفاً أو اختياراً.

تبنى قضية العدالة الاجتماعية وأكد دائماً على دور الدولة في مساندة المحتاجين والشباب في التعليم والصحة وغيرها من القضايا الاجتماعية وكان يؤمن بان ذلك يخلق مجتمعاً مستقراً وقدم للإعلام استراتيجية عمل في هذه القضايا الاجتماعية عبر واحد من أبرز مؤلفاته وهو الصحافة والتحول الاشتراكي، وفي الوقت نفسه أمن بالتواصل والانفتاح على الحضارات الأخرى ولكن من منظور التكافؤ والندية وليس من منظور التبعية والخضوع وذلك باعتبارنا كعرب أصحاب حضارة متميزة لا تقل عن الحضارة الغربية وسجل ذلك أيضاً في مؤلفه المعروف بالصحافة والسلام العالمي وفيه طالب منذ أوائل خمسينيات القرن العشرين بأهمية أن يكون للإعلام مسؤولية اجتماعية نحو المجتمع الذي توجد فيه تلك الأفكار التي كانت الأساس الذي بنيت عليه واحدة من أهم النظريات العالمية في الإعلام وهي نظرية المسؤولية الاجتماعية.

لقد نبه التهامي منذ نهاية الستينيات إلى أن الإعلام يجب أن يهتم بقضايا الجماهير ويرتب أولوياتها حول القضايا الوطنية حتي يكونوا داعمين ومساندين للدول في البناء والتنمية وهو ما يحقق المشاركة الجماهيرية في القضايا الوطنية وهذا ما أتت به نظرية إعلامية أخرى هي «نظرية ترتيب الأولويات» التي ظهرت في منتصف السبعينات، كما كان من رواد تطبيقات علم تحليل المضمون في الدراسات الإعلامية بجانب لتأصيله وريادته في علوم الرأي العام والإقناع والحرب النفسية وكلها مراجع أصيلة في علم الاتصال مازال الباحثون ينهلون منها.

لقد ترك عالمنا الراحل علماً غزيراً ينتفع به الناس وسيرة عطرة تمثل قدوة للأجيال القادمة.. جعل الله كل ذلك في ميزان حسناته وإلهم محبيه الصبر على رحيله.

* أستاذ الإعلام وعلوم الاتصال