خلال الحرب العالمية الأولى كان أحد الشباب في بغداد مولعاً بقراءة الجرائد وتتبع أخبار الحرب، وكان أبوه يحاول جاهداً ثنيه عن الاهتمام في السياسة والانشغال بأخبارها، محاولاً صرفه عنها دون جدوى، وفي يوم من الأيام جاء الولد إلى البيت راكضاً وهو يهتف: «سقطت وارسو.. سقطت وارسو» بعد أن قرأ الخبر في عدد جريدة ذلك اليوم، وظن أنه ينقل خبراً مهماً لأبيه، لكن الأمر كان مستفزاً بالنسبة للأب الذي يحاول صرف ابنه عن الحديث في السياسة، فأراد أن يلقنه درساً، فسحبه من يده إلى السوق حتى وصل به إلى بائعة الشوك، الذي كان يستخدم كحطب لإشعال التنور، فأمسك بحزمة من الشوك قائلا للبائعة: هل تبيعين هذه الباقة بسقوط وارسو؟ لم ترض طبعاً واستخفت به، عندها التفت الأب إلى ابنه، وقال له: «شوف هذا الخبر اللي نقلته لي وتحسبه مهم، لا يسوى حتى حزمة شوك».

قبل مائة سنة من الآن لم يكن للناس رغبة بالسياسة والحديث فيها، ولا يفكرون في التدخل بشؤونها ويعدونها خطرة عليهم، وإذا حدثت أحدهم بالسياسة قال لك، «مو شغلي، هذي ما توكل خبز» فالناس كانوا مشغولين بأرزاقهم لا يشغلهم إلا قوت يومهم، حتى حصلت تلك الطفرة في الوعي السياسي لتتحول إلى ظاهرة اجتماعية، وصار الكثير يتحدثون بأمور السياسة، لنصل إلى انعطافه أخرى زاد فيها عدد المهتمين بالسياسة والمتحدثين بشؤونها كما هو الحال في أيامنا هذه، التي تحولت فيها وسائط التواصل الاجتماعي إلى منتديات سياسية بل إلى حلبات مصارعة، لكن للأسف كثير من المتحدثين في السياسة ينطلقون من باب «مداراة الرزق» وليس من باب الوعي السياسي بعدما أصبحت السياسة «توكل خبز»، وأصبحت دول ومنظمات وأحزاب وجماعات توظف من يتحدث في السياسة عن دراية وغير دراية خدمة للأوطان أو طعناً بها، لتصبح أحاديث السياسة «فزعات» يجب على الكل الحديث والإدلاء برأيه حتى لو لم يكن له رأي واضح في المسألة أو أنه لا يعرف أبعادها لكنه أمام فريقين لابد أن يكون مع أحدهما، وبدل الاختلاف في الرأي ظهر نوع جديد من الإرهاب الفكري، أما من كان له رأي مستقل وأراد أن يعبر عنه فعليه أن يتلقى سيل الشتائم التي تأتيه من المهاجمين الذين يعتبرونه مع الطرف الآخر وربما في اليوم التالي وفي مسألة أخرى يتلقى نفس الشتائم من الطرف الذي سكت عنه بالأمس لأنه اعتبر رأيه نصرة لأعدائهم.

هذا النوع وأعني من لم يوظف للحديث في السياسة بمقابل، هؤلاء السياسة بالنسبة لهم «ما توكل خبز» ولن يجنوا من ورائها إلا المشاكل، لكن هل بإمكانهم السكوت وهم يتحدثون بدافع الوعي، الواقع أن حالهم سيكون كحال ذلك الفتى الذي طار بالخبر إلى أبيه.