غزة - عز الدين أبو عيشة، وكالات

الشاب الفلسطيني الشهيد إبراهيم أبو ثريا.. استغنى عن كرسيّه المتحرك وزحف بنصف جسده نحو أجله، كان يرى النصر الحقيقي بعيونه، يضحك ويسرع ليرفع العلم في أعلى قمة، حتى يرثه جيل ويغرسه في القدس عاصمةً لفلسطين، فكانت الشهادة من نصيبه.

وأعلنت وزارة الصحة في غزة استشهاد الشاب البالغ من العمر 29 عاما خلال مواجهات في مخيم البريج شرق غزة، استشهد خلالها صديق له كذلك.



فقد إبراهيم أبو ثريا ساقيه قبل نحو 10 سنوات في قصف إسرائيلي بعد أن رفع علم بلاده على حدود قطاع غزة، وظل منذ ذلك الحين مع كرسيه المتحرك مشاركاً فعالا في المواجهات حتى استشهاده الجمعة برصاصة في الرأس أطلقها عليه جندي اسرائيلي.

استشهد أبو ثريا على كرسيه المتحرك والعلم الفلسطيني على حضنه كما ظهر في فيديو نشره نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي وثق لحظة مقتله. وبينما حمله أحدهم بين ذراعيه التف عشرات حوله مرددين "بالروح بالدم نفديك يا شهيد".

قبل استشهاده بساعات تسلق أبو ثريا عمود كهرباء قرب الحدود ليرفع العلم الفلسطيني كما ظهر في صور وشريط فيديو تداوله نشطاء التواصل الاجتماعي. فقد إبراهيم ساقيه خلال غزو إسرائيل شرق مخيم البريج وسط قطاع غزة في أبريل 2008. وقبل استشهاده ظهر أبو ثريا في فيديو وهو يزحف ويرفع علامة النصر مباشرة أمام السياج الفاصل على مرأى من الجنود الإسرائيليين.

ويقول الشاب في الفيديو بينما يلتف حوله شبان آخرون وهو يلوح بالعلم الفلسطيني "أريد أن أذهب إلى هناك" في إشارة إلى الجانب الآخر. وتداول نشطاء على مواقع التواصل فيديو له وهو يزحف قبل أيام باتجاه الحدود ويجيب على أحدهم عن سبب مجيئه "هذه الأرض أرضنا، لن نستسلم، أمريكا لازم تسحب قرارها".

وظهر في فيديو آخر وهو يلوح بيديه للجنود الإسرائيليين في الموقع المحصن ويشير إلى ساقيه المبتورتين ثم يتقدم نحوهم خطوات أخرى. لم يكن يعلم إبراهيم أبو ثريا أن تلك القمة هي نهاية مطافه، ولا يعرف أنّ العلم الفلسطيني يغيظ جنود جيش الاحتلال، الذين لا ينسوه منذ قصفه عام 2008 عندما فقد قدميه، وبقيت صورته في ذاكرتهم يخشونه ويخافون انتقامه.

استغل جنود الاحتلال الموقف وبطلقة نارية واحدة في أعلى رأسه أنهوا حياة إبراهيم "29 عامًا"، وأنهوا معه حياة أسرةٍ يعيلها مكونة من 6 أفرادٍ، لقمة عيشهم عمل أبو ثريا في مجال تنظيف السيارات وسط شوارع القطاع وبيعه البسكويت.

إبراهيم بدأ حياته لاجئًا في مخيم الشاطئ، وسط أسرة متوسطة الحال تعيش في غرفةٍ واحدة بها معدات بسيطة للمطبخ، وحمام صغير لا يسع شخصا واحدا، ينام في تلك الغرفة مع والدته إلى جانب إخوانه الصغار.

آمن بفلسطين قضية للمسلمين، وحمل في قلبه حب القدس، وأخذ على عاتقه وعد التضحية لأجلها، فالتحق في صفوف المقاومة، ورابط ليله على حدود القطاع يرصد الجنود ويرسم الخطط، لكن حلمه اصطدم بإعاقته.

ففي العدوان الإسرائيلي على القطاع عام 2008، كان إبراهيم في مخيم البريج، فهو لا يعتاد على المدينة وضجيجها، ومثله عاش طوال حياته بين زقاق المخيم، وضيق الشوارع، وصغر البيوت، وحياة البسطاء.

وفي طريقه إلى بيته، تعرّض لقصف مدفعي عنيف على إثره بُترت أقدامه، وعاش بعدها على أطرافه، وحاول إبراهيم السفر للعلاج لكن الاحتلال الإسرائيلي منعه من ذلك بوضعه على قائمة الممنوعين.

ولإعاقته لم يتزوج، وعاش لإخوانه أبًا وأخًا ومرشدًا، أفنى حياته الباقية على كرسي متحرك، وقطعة قماش مهترئة وبعض البسكويت، يحتضنهم كلّ صباح ويشق طريق الأمل ليبيع بشواكل قليلة "العملة الإسرائيلية" تكون مصروفًا لبيته.

حبّ القدس لم يخرج منه، بل عاش في قلبه وكبر كثيرًا، فكان إبراهيم يشارك في كلّ الوقفات التي تخرج نصرةً للأقصى، ويخرج في المواجهات التي تندلع لأجل القدس، فيقول لإخوانه بلهجته العامية "هاد القدس، بتعرفو شو يعني.. دمي بعروقي ونبض في قلبي".

ومنذ أن اعترف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، وأوعز لوزارة خارجيته نقل السفارة إليها، غضب أبو ثريا.. وقطع وعدًا أن يشارك في كل الاحتجاجات والهبات.

لم يتوان يومًا في الذهاب لنقاط التماس ليواجه جنود الاحتلال، واستمر على ذلك كلّ يوم يحمل علم فلسطين، ويخرج من بيته يجر بيده كرسيه المتحرك، إلى أن يصل الى مناطق المواجهات، ويكون أوّل الأشخاص، يرمي الحجارة ويرفع علم فلسطين وعلامة النصر.

في آخر يوم للشهيد احتضن علم فلسطين واعتلى عمود كهرباء ورفعه أعلاه، هذا المشهد لم يعجب الجنود الذين أطلقوا عليه الرصاص الحيّ ليلتف علم بلاده على وسطه ويكفّن فيه إلى مثواه الأخير. معظم القيادات الفلسطينية صلت الجنازة عليه، وشيع إلى مثواه الأخير من مخيم الشاطئ، مخيم الثورة، بعلم فلسطين، واعتبره الرئيس الفلسطيني محمود عباس من شهداء الثورة، وتكفل بعائلته بمصروفٍ شهري وبيت صالح للحياة بدل الغرفة التي لا تدخلها الشمس.