بلغ حجم الأثر الذي تركه كتاب "سيبويه" في النحو العربي، أن يقال فيه ما لم يقل في غيره، من قريب أو من بعيد. إذ قيل لمن يقرأ كتاب سيبويه "ركبتَ البحرَ"، إشارة إلى غناه وعمقه وسعته وصعوبته أيضاً.

ووصلت قيمة الكتاب إلى الدرجة التي تكفي فيها الإشارة بكلمة "الكتاب" ليُعرف أن المقصود بها هو كتاب سيبويه في النحو، والذي لم يكن يحمل اسماً، في أصله، وإنما أخرجه مؤلفه بدون مقدمة أو خاتمة، واضعاً فيه كل ما سمعه ممن سبقوه أو عاصروه، فذكرهم بأسمائهم أو أشار إليهم، بعامة الإشارة.

وسيبويه هو عمرو بن عثمان بن قنبر. وقيل في لقبه إنه يعني رائحة التفاح، كما أشارت مصادر المصنفات العربية القديمة، مجتمعة على أن لقب سيبويه من رائحة التفاح، إلا أن ضبطاً حديثاً لهذا اللقب ومستنداً إلى بعض المصنفات العربية القديمة، جعله يحمل معنى الثلاثين رائحة، حسب ما وصل إليه البحّاثة الكبير عبد السلام هارون، في مقدمته وتحقيقه لكتاب: "الكتاب-كتاب سيبويه".

واختلف المصنّفون على سنة وفاته، فبعضهم جعلها سنة 194 للهجرة، والبعض الآخر 188، ثم 177. إلا أن غالبية من مؤرخي الأدب العربي ترجح سنة الوفاة عام 180 للهجرة، كما ورد في "وفيات الأعيان" التي جاء فيها أكثر من سنة لوفاته.

وقال ابن خلكان في وفياته، إن سيبويه توفي بقرية من قرى شيراز وعمره "نيفٌ وأربعون سنة" إلا أنه ينقل عن مصدر أنه توفي في البصرة العراقية، ثم عن مصدر آخر يقول بوفاته في مدينة أخرى.

وينقل الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" عن أحد الرواة، أن قبر سيبويه في شيراز.

الكتاب الذي اشترك في صنعته 42 إنساناً منهم مؤلّفه!

اشتُهر كتاب النحو الذي وضعه سيبويه، وبصفته الأول في نوعه، باسم "الكتاب"، ثم أشير إلى مؤلفه بكونه الأول بين أقرانه في جمع ووضع مادته. لكن ما أورده ابن النديم في "الفهرست" عن مصادر كتاب سيبويه ورواته، توضح طبيعة خروج "الكتاب" باسم مؤلف واحد، فيما المصادر، هي الأخرى، ساهمت بوضع هذا الكتاب، على اعتبار أن "سيبويه" لم يأت من فراغ، ولم يستخدم مصطلحاً غير قابل للفهم والرواج، بل أعاد استعمال ما سمعه من أساتذته، بدليل أن سيبويه نفسه، لم يكن يضع تعريفاً بمصطلحاته، حسب ما قاله المستشرق الفرنسي جيرار تروبو، في دراسته الموسومة بـ"نشأة النحو العربي في ضوء كتاب سيبويه".

وتشير دراسة المستشرق الفرنسي، إلى أن سيبويه لم يأت بمصطلحات (نحوية) جديدة، بل استخدم ما كان النحاة العرب القدامى يستخدمونه، في كلامهم. ويستدل تروبو، لتأكيد صواب ما ذهب إليه، بأن معاصري سيبويه كانوا يفهمون تلك المصطلحات، بدون أن يقوم هو بتفسيرها، كدليل على رواجها، أصلاً، بين النحويين ورواة الأدب، بحسب تروبو.

يشار إلى أن ما قاله المستشرق الفرنسي السالف، يستقيم مع ما أورده ابن النديم صاحب "الفهرست". حيث ينقل رواية عن أبي العباس ثعلب، يقول فيها: "قرأتُ بخطّ أبي العباس ثعلب: اجتمعَ على صنعة كتاب سيبويه اثنان وأربعون إنساناً، منهم سيبويه" مؤكداً أن "الأصول والمسائل" فهي تعود للخليل بن أحمد الفراهيدي.

والاستدلال بغياب تعريف المصطلح، كقرينة تثبت أن الاصطلاح ذاته كان رائجاً، بالفعل، ومفهوم الدلالة، ثم رواية "الفهرست" عن اثنين وأربعين إنساناً "اجتمعوا" على صناعة كتاب "سيبويه"، لا تسلب حق الرجل بكتابه، طبعاً، إلا أنها، في المقابل، تؤكد على المصادر التي سمع منها سيبويه، قبل أن يخرج بكتاب نحوه الشهير. فمن هم أشهر الذين سمع منهم ذو الثلاثين رائحة؟

مرحباً بزائر لا يُمَل.. الأساتذة الذين أخذ سيبويه منهم

لعل أشهر من سمع سيبويه منهم، هو حماد بن سلمة بن دينار، الذي كان عالماً بالنحو، واشتُهِر بتخطئة سيبويه المتواصلة، الأمر الذي اعتبره بعض مؤرخي الأدب، سبباً رئيساً لاحتراف سيبويه النحو.

ومن أساتذة سيبويه عيسى بن عمر الثقفي، الذي أخذ بدوره من عبد الله أبي إسحاق الذي أشير إليه في بعض المصادر العربية القديمة بأنه "أوّل من بعج النحو ومدّ القياس".

ويبرز اسم يونس بن حبيب الذي أورده سيبويه كثيراً في كتابه.

الخليل بن أحمد الفراهيدي، يعتبر أشهر أساتذة سيبويه.

وروى سيبويه عن أبي عمرو بن العلاء الذي أخذ النحو من تلاميذ أبي الأسود الدؤلي.

ومن أشهر الذين أخذ سيبويه منهم، الأخفش الأكبر الذي كان يعتبر من أئمة النحو.

وقائمة الذين أخذ منهم سيبويه، تطول حتى تتسع فعلاً، إلى ما أورده "الفهرست" عن اجتماع اثنين وأربعين إنساناً بصناعة "الكتاب" واحد منهم المؤلف الذي يرحب به الفراهيدي بعبارة شهيرة لم يقلها بسواه: "مرحباً بزائر لا يُملّ".

ويرى البعض أن أي إحالة ترد عند سيبويه، لم يعرف صاحبها، وتأتي في شكل "وقال.." أو "سألته" دون ذكر الاسم، فيكون المقصود بالمرجع هو الفراهيدي، بحسب مصادر عربية قديمة ومعاصرة، وهو ما جاء في كتاب "الكتاب – كتاب سيبويه" المشار إليه.

كتابٌ أُلِّفت فيه عشرات الكتب

أثّر كتاب سيبويه في مختلف مذاهب النحو العربية، كنحو الكوفيين ونحو الأندلسيين، وسواهما، وألف فيه عشرات الكتب التي جاءت بعده، إمّا شروحات عليه، أو تعقيبات، أو امتدادات منه أو إشارة إلى ما في الكتاب من مشكلة هنا أو هنا، برأي مؤلفيها.

ولا يزال ينظر، إلى الآن، إلى "الكتاب" بصفته الأول في تاريخ النحو العربي، وإلى سيبويه بصفته جاء بكتاب لم يؤت مثله، من قبل، لكن ما أورده المصنفون العرب القدامي، وبعض المحدثين منهم، يقترب أكثر من اعتبار "الكتاب" جمعاً لما قاله رواةٌ ونحاة تتلمذ سيبويه على أيديهم، بدليل أنه لم يضع اسماً لكتابه، وكذلك لم يضع شرحاً لأي مصطلح استخدمه، ما يؤكد رواج الكلمة قبل استخدامها، ورواج معناها قبل إدراجها في متن هذا الكتاب الفريد. إلا أن صاحب الثلاثين رائحة، يبقى، مع كل ما سمعه ممن سبقوه وعاصروه، واضع أول كتاب نحو في اللغة العربية، وهي مكانته التي لا يزاحمه فيها أحدٌ.

وذكر ياقوت الحموي في "معجم الأدباء" رواية توضح أثر الفراهيدي في كتاب "الكتاب" الذي وضعه سيبويه: "لما مات سيبويه قيل ليونس بن حبيب: إن سيبويه قد ألف كتاباً في ألف ورقة، من علم الخليل (الفراهيدي). فقال يونس: ومتى سمع هذا كله من الخليل؟ جيئوني بكتابه".

وتقول الرواية إن يونس بن حبيب قال بعد أن تصفح الكتاب: "يجب أن يكون هذا الرجل قد صدق عن الخليل في جميع ما حكاه، كما صدق في ما حكاه عنّي".