هل تدرك معنى أن تصدم شخصاً بتجريده من قضيته؟ ومن ثم من هويته ليصبح في النهاية بلا رسالة؟! ثم تطلب منه أن يسير منتصباً وأن يعيش متزناً؟ هذا هو بالضبط معنى أن تقول للعربي بأن القضية الفلسطينية لم تعد قضية العرب الأولى، وأن على الفلسطينيين أن «يحلوا عنا» ويتركونا وشأنهم هم. لأن في النهاية إسرائيل صارت دولة طبيعية مثلها مثل باقي «مخاليق ربنا» وأننا أناس مسالمون لا نريد مشاكل مع أحد من أجل أحد آخر!!

أجيال عربية غفيرة درست في مدارسها وتلقت عبر تلفازها وجرائدها أن الاستعمار البريطاني في مطلع ثلاثينات القرن الماضي سلّم فلسطين العربية لمجموعة عصابات يهودية متعددة الجنسيات. وأن تلك العصابات ارتكبت جرائم إبادة في حق عشرات الآلاف من الفلسطينيين وسلمت تلك العصابات بدورها، منازل الفلسطينيين لدفعة جديدة من عصابات يهودية متعددة الجنسيات، باعتبار أن أجداد اليهود متعددي الجنسيات سكنوا أرض فلسطين قبل الشعب الفلسطيني بما يزيد عن ثلاثة آلاف سنة!! أجيال غفيرة تعلمت أن إسرائيل كيان استعماري توسعي وأن بروتوكولاتهم تقوم على تدمير أمة العرب، كما يحدث الآن، ثم تولي حكمها من الفرات إلى النيل تحقيقاً لحلم إسرائيل الكبرى. هؤلاء كيف سنغير قناعاتهم اليوم، ونقول لهم إن ما سبق كلام عفا عليه الزمن ونحن أبناء اليوم، واليوم صار غير؟!

لن يقبل أحد من أنصار إسرائيل أن يتفوه أحد أحفاد السكان الأصليين للأمريكتين وأستراليا بمنطق الإرث التاريخي للأرض الذي تهدد إسرائيل وأمريكا به العالم. علماً بأن الإبادة العرقية التي مورست ضد السكان الأصليين للعالم الجديد لم يتجاوز المائتي عام، أي يمكن ألا تكون قد سقطت بالتقادم!! لكن.. نحن العرب يُفصّل لنا ما لا يقبله العالم المتحضر لنفسه!

كثير من اللاهثين خلف التطبيع يظنون أننا مجموعة من المترفين فكرياً الحالمين بالوحدة العربية الكاملة! هذا توصيف ساذج. نحن، فقط، ندرك أن لهذه الجغرافيا المشتركة استحقاقاتها. وأن للموروث الثقافي الواحد الذي يربطنا، دون طلب شخصي من أحدنا، يفرض علينا إكراهات لا نستطيع خوض مغامرات تحديها. وأن علينا أن نفكر، ولو مرة واحدة في تاريخنا المعاصر، بمصلحتنا نحن، وبمستقبلنا نحن. وأن نتأمل كيف تتشكل الكتل السياسية المشتركة في العالم لمصلحة الشعوب وتقويتها وإغنائها وتطويرها والحفاظ على سلامتها وضمان مستقبلها. وهذا كله لا يمكن تحقيقه لو انجرفنا نحن العرب بالتصرف، وكأننا جزر صغيرة معزولة، تتوهم أنها قوية ومكتفية بذاتها. هذه ثوابت نحفظها وإن كنا لا نستطيع تحقيقها.

بالتالي، لا يمكن لأجيال العرب أن تقبل، لا من الناحية الأخلاقية، ولا من الناحية البراغماتية أيضا، باقتطاع أرض عربية وتسليمها لمحتلين آخرين تحت أي ذريعة أو ضغوطات. وعلينا التذكير أن المنطقة العربية محاطة بالطامعين باستعمار أراضيه وأصحاب الحجج التاريخية بالأحقية على تلك الجغرافيا، فهل ترضاه لأرضك؟ القضية قضية مبدأ وثوابت تاريخية وقومية وإنسانية. وإن كنا أمة تفخر بأنها أمة القيم والأخلاقيات والروحانيات والكرم والشهامة، فكيف نقبل على أنفسنا أن تباع أراضينا وتشترى وأن نكون نحن الغطاء الشرعي والمروج للبيعة؟

المفارقة، أن بعض العرب من أنصار التطبيع عاشوا صدمة لا توصف نتيجة التصويت الأخير للأمم المتحدة بشأن تغيير وضع القدس السياسي، حيث صوتت النسبة الساحقة من دول العالم برفض القرار الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية للقدس. العالم يدرك أنه موضوع أخلاقي وإنساني ولا يقبل أن يبدد حق الفلسطينيين التاريخي بوعد شخصي من السيد ترامب حاكم أقوى بلد على الكرة الأرضية. فدول العالم مازالت تعتد بالمبادئ والثوابت الإنسانية.

فلسطين المحتلة هي قضية العرب الأولى. والخراب الذي اجتاح باقي الدول العربية ما هو إلا سيناريو صهيوني ليكون بوابة تدخل خلالها الهزيمة النفسية للعرب كي يبدلوا قناعاتهم ومبادئهم ويقبلوا بأي حل أو أي نتيجة تخرجهم من الأزمة التاريخية الكبرى التي يعيشونها والتي وقعت نتيجة استمرار الاحتلال الصهيوني للأراضي العربية. وعليه فإننا لن نغير ثوابتنا من أجل السلام المجاني والباهت الذي يخدعوننا به. وسنبقى على العهد العربي بعروبة القدس وكل الأراضي الفلسطينية. والتطبيع لا يمثلنا.