حالة من الذهول والحزن أصابت ما يزيد عن 2 مليار مسلم في العالم عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اعترافه بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل في تمام الساعة الثامنة من يوم الأربعاء السادس من ديسمبر الجاري، وقرر نقل السفارة الأمريكية إليها خلال ستة أشهر.. لتصنف على أنها سقطة أمريكية أخرى تثبت بها أنه لا اعتبار لديها للقرارات الدولية التي تتغنى بها بين الحين والآخر عندما تعقب على أي فعل على المستوى الدولي يخالف رغباتها بل ولتثبت أن استخدامها لهذه القرارات للتدخل العسكري ضد دول أخرى كان مبرره الوحيد مصالحها، إلا أن القارئ للتاريخ من الصعب أن يصاب بحالة الذهول هذه حيث يمكنه أن يعي أن ما حدث تم التحضير له ضمن قواعد لعبة تم استخدامها أكثر من مرة وبشكل بالغ الإحكام.. إنها «لعبة الأفكار».. ووفقاً لقواعد اللعبة يتم استخدام الأفكار لإشعال الصراعات الأيديولوجية والفكرية ثم تأتي مرحلة من الدعم المادي حتى يتحول الصراع من المستوى الفكري إلى واقع عملي يستنزف الأمم ليمهد لحالة الحسم المستهدفة.. لعبة طبقت مؤخراً في خطوة استباقية بين «حماس» و»فتح» ثم اتسع تطبيقها على عدد لا بأس به من الدول العربية فيما أطلق عليه «ربيعاً عربياً» واتضح بما لا يدع مجالاً للشك بعد قرار القدس أنه «ربيع عبري».. تم اللعب خلاله في أكثر من اتجاه وعلى مساحة جغرافية مترامية الأطراف وإن كان بنفس الطريقة.. في البداية يتم تقوية ودعم المعارضة بشكل مباشر أو غير مباشر لتزيد الإغراءات.. وبالتالي يبدأ عرض مستمر من النزاعات والصراعات بين القوة ذات التوجهات الفكرية والأيديولوجية المتباينة.. نزاعات تجبر الدول الخاضعة لهذه اللعبة على تبديد طاقتها واستهلاك مواردها.. لتهدم البلدان كلها مرة واحدة ويضرب اقتصادها وتتوقف حال التنمية فيها.. وينشغل كل القائمون عليها بمحاولة ترميم الأوضاع المختربة -يعني كله مشغول بحالة-.. فينشغل المسلمون بالمسلمين وأهل البلد مقسومون منشغلون ببعضهم البعض.. بل وفوق ذلك أشعل القتال في سوريا وليبيا واليمن والعراق ليدمر عدداً من الجيوش العربية، ومع حالة الانشغال والانقسام والإنهاك هذه تحين اللحظة المنشودة.. فماذا ينقص إذاً حتى تُكتب كلمة النهاية للقدس؟!!

وبمراجعة التاريخ يمكن ببساطة أن يتضح لنا أنها لعبة قديمة تم تجريبها في السابق أكثر من مرة.. كان أكثرها براعة وبروزاً عندما تم دعم الإسلاميين وتأجيج حالة من التوتر في الجمهوريات الجنوبية للاتحاد السوفيتي، لينشغل ذلك العملاق السوفيتي بأجزائه ثم استعمال أفغانستان لإقلاق الاتحاد السوفيتي وإرغامه على التدخل العسكري فيها وتصوير الموقف على أنها حرب بين «الجهاد الإسلامي» ضد «الإلحاد المادي الشيوعي»، والولايات المتحدة بالطبع بعيدة ليس لها أي علاقة ولا تتحمل أي أعباء مالية ولا عسكرية لاستنزاف غريمها السوفيتي، وبسرعة الآلة الإعلامية تعمل على تشويه الصورة وتؤجج مشاعر الغضب نحوه لينشغل ذلك الغريم عسكرياً وإعلامياً، ويتلو ذلك تداعياته الاقتصادية وتبدو المسألة حرباً فكرية أيديولوجية وليس لأحد خارج أطراف الصراع فيها أي علاقة بها من قريب أو بعيد.. ومع حالة الاستنزاف والانشغال هذه يكون التحضير للطريق السهل للوصول للهدف الأساسي وهو.. تفكيك الاتحاد السوفيتي.

والحقيقة أن إدراك وتطبيق قواعد هذه اللعبة كان مبكراً عن تلك الواقعة.. فقد استخدمت حين تم تقسيم شبه الجزيرة الكورية دون استشارة الكوريين، إلى كوريا الجنوبية والخاضعة لسيطرة الولايات المتحدة وكوريا الشمالية الواقعة تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي ليكون التنافر الفكري والأيديولوجي حجر الأساس لحرب أهلية نشبت بالفعل في 25 يونيو 1950، ويتلوها نزاع دائم ظل حتى وقتنا الحالي.. نزاع قضى على الحلم الكوري بلم الشمل بعد انتخابات أجريت في الكوريتين 1948 بل وخلفت قرابة 1.5 مليون قتيل، ولعل أهمية استمرار حالة الصراع الفكري هذه لدعم المصالح الأمريكية تكون هي المبرر المنطقي لاستمرار الدعم الأمريكي حتى يومنا هذا لكوريا الجنوبية، ومبرر منطقي للصيحات الأمريكية بدق طبول الحرب على كوريا الشمالية، حين أظهرت بوضوح أوائل هذا العام رغبتها في الانضمام للنادي النووي وقيامها بالتجربة النووية الخامسة في بحر الصين.

وعلى صعيد آخر، فهي نفس اللعبة التي جعلت المعونة الأمريكية لفيتنام عام 1954 تغطي الـ80% من الميزانية العسكرية، بل وتزداد لتشمل 85% من ميزانية فيتنام الجنوبية بين 1955 و1958، وذلك دعماً لحاكمها «دييم» ضد الأعضاء الجنوبيين للحزب الشيوعي الفيتنامي وبعد اتفاقية جنيف التي قامت بتقسيم فيتنام إلى شمالية موالية للفيتنامية الشيوعية، وجنوبية موالية لأمريكا وفرنسا، وحين أن أصبح جلياً زيادة شعبية الفيتنامية فقد ضخت أمريكا الأموال لكي تكون لعبة الأفكار في الصالح الأمريكي عن طريق استمرار الصراع بين الفيتناميتين. وكانت لعبة الأفكار أيضاً هي المبرر المنطقي لتصاعد الدعم العسكري الأمريكي لنظام فيتنام الجنوبية حتى بعد أن اضطر نيكسون بعد فضيحته الانسحاب عام 1973 لدرجة أن جيش فيتنام الجنوبية استخدم ذلك العام 40% من مجمل إنتاج صناعة الذخائر الأمريكية.

وللحديث بقية.

* أستاذ الإعلام الرقمي المساعد