نواصل في الجزء الثاني من المقال حديثنا عن «القدس ولعبة الأفكار».

الحقيقة أن إدراك وتطبيق قواعد هذه اللعبة كان مبكراً عن تلك الواقعة..

فقد استخدمت حين تم تقسيم شبه الجزيرة الكورية دون استشارة الكوريين إلى كوريا الجنوبية والخاضعة لسيطرة الولايات المتحدة وكوريا الشمالية الواقعة تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي ليكون التنافر الفكري والأيديولوجي حجر الأساس لحرب أهلية نشبت بالفعل في 25 يونيو 1950، ويتلوها نزاع دائم ظل حتى وقتنا الحالي..

نزاع قضى على الحلم الكوري بلم الشمل بعد انتخابات أجريت في الكوريتين 1948 بل وخلفت قرابة 1.5 مليون قتيل، ولعل أهمية استمرار حالة الصراع الفكري هذه لدعم المصالح الأمريكية تكون هي المبرر المنطقي لاستمرار الدعم الأمريكي حتى يومنا هذا لكوريا الجنوبية ومبرراً منطقياً للصيحات الأمريكية بدق طبول الحرب على كوريا الشمالية حين أظهرت بوضوح أوائل هذا العام رغبتها في الانضمام للنادي النووي وقيامها بالتجربة النووية الخامسة في بحر الصين.

وعلى صعيد آخر فهي نفس اللعبة التي جعلت المعونة الأمريكية لفيتنام عام 1954 تغطي الـ80% من الميزانية العسكرية، بل وتزداد لتشمل 85% من ميزانية فيتنام الجنوبية بين 1955 و1958.

وذلك دعماً لحاكمها «دييم» ضد الأعضاء الجنوبيين للحزب الشيوعي الفيتنامي، وبعد اتفاقية جنيف التي قامت بتقسيم فيتنام إلى شمالية موالية للفيتنامية الشيوعية وجنوبية موالية لأمريكا وفرنسا، وحين أصبح جلياً زيادة شعبية الفيتنامية فقد ضخت أمريكا الأموال لكي تكون لعبة الأفكار في الصالح الأمريكي عن طريق استمرار الصراع بين الفيتناميتين.

وكانت لعبة الأفكار أيضاً هي المبرر المنطقي لتصاعد الدعم العسكري الأمريكي لنظام فيتنام الجنوبية حتى بعد أن اضطر نيكسون بعد فضيحته الانسحاب في عام 1973 لدرجة أن جيش فيتنام الجنوبية استخدم ذلك العام 40% من مجمل إنتاج صناعة الذخائر الأمريكية.

وتلك هي اللعبة تحديداً وليست غيرها التي أزكت الحرب العراقية الإيرانية عام 1980 لتكون النواة الأمريكية للانتقال إلى مرحلة السيطرة على حقول النفط العراقي، وكالعادة كان الخط الرسمي الأمريكي محايداً لكن في الواقع كان هدفها واضحاً من تصريح كيسنجر عن الرغبة الأمريكية بأن يكون في تلك الحرب خاسران وهو ما يفسر تزويد أمريكا طرفي الحرب بالسلاح، فبالرغم من أن أغلب التسليح العراقي كان سوفيتياً - فرنسياً إلا أنه كما أوضحت كل من «فايننشال تايمز» في عام 1989 و«نيوزويك» في عام 1990، فقد زودت أمريكا العراق بالمعلومات الاستخباراتية علاوة على قواعد بيانات حاسوبية لتتبع الخصوم مع شحنات أسلحة أخرى..

وفي الوقت نفسه ولتحقيق هدف الخسارة الثنائية زودت أمريكا إيران بقطع الغيار وبالأسلحة مثلما اتضح من قضية «إیران - كونترا» ليصبح واضحاً أنه لم يكن يهم أمريكا أن تدعم أياً من الطرفين..

الأهم أن يستمر الصراع لتستمر الحرب 8 سنوات وتنتهي تاركة للعراق اقتصاداً غارقاً بالدیون، بعد أن كان فائضه 30 مليار دولار..

ولإيران خسائر اقتصادية مماثلة وتتخطى الأضرار بالبنية التحتية التريليون دولار، علاوة على دماء ما يزيد عن مليون قتيل وجريح من الطرفين، كل هذه الخسائر من أجل حرب لم يكن لها أهداف واضحة، سوى ما نشر في كتاب بريطاني عن الحرب العراقية الإيرانية نشر ملخصه في الشرق الأوسط من أن كلاً من النظام العراقي والإيراني يريد تغيير نظام الحكم في البلد الآخر «نفس الهدف الذي أعلن في عدد من الدول التي تعرضت لما سمي بـ«الربيع العربي».. لعبة قديمة تعاد كما هي أليس كذلك؟!

وكالعادة وسط زخم الصراع وخسائره الاقتصادية والعسكرية تأتي المكاسب الأمريكية.

ولأن هذا وحده لا يكفي ولأن هناك المزيد من الأهداف يجب أن تتحقق فكان لزاماً أن تستمر حالة الصراع هذه ولكن بإخراج آخر يزيد اللعبة إثارة ويؤمن مكاسب أمريكية أكبر، فكان الفخ الأمريكي للعراق هو الأنسب حين أعطت «جلاسبي» السفيرة الأمريكية ببغداد الضوء الأخضر لصدام فأبلغته أن الصراعات العربية - العربية لا تعني الولايات المتحدة.

وعندما كان جاءت الإجابة عن سؤاله عن «رد الفعل الأمريكي في حال غزو الكويت» أنه لا توجد اتفاقية دفاعية للدفاع عن الكويت ليقع صدّام في الفخ ليصبح غزو العراق للكويت أمراً واقعاً يرسم ملامح حقبة جديدة من التدخل الأمريكي المباشر وتؤمن مزيداً من المكاسب الاقتصادية والاستراتيجية الأمريكية وتكتب الحروف الأولى للتخلص النهائي من العراق عبر الحصار الدولي لها وتكون العراق جاهزة للسقوط الأخير والذي حدث عام 2003 حين قامت أمريكا بغزو العراق مصحوباً بمخاوفها المزعومة من وجود أسلحة كيماوية بالعراق، لينتهي العراق ويتشبع انقساماً وتتواجد إيران كفاعل رئيس في الداخل العراقي من أجل أن تستمر فترة الصراع إلى أجل غير مسمى وتتيح طول مرحلة الفوز الأمريكي الأكبر بعد لعبة الأفكار التي ظلت تستخدمها ببراعة في هذه المنطقة 23 عاماً فتسيطر على بترول العراق وثرواته وتعمق من تواجدها بالمنطقة.

وللحديث بقية..

* أستاذ الإعلام الرقمي المساعد