كان النموذج البحريني في حل مشكلة نقص مساحة اليابسة المطلوبة للبناء والتشييد كأحد المتطلبات السابقة لتأسيس دولة مدنية حديثة قادرة على تلبية متطلبات مواطنيها في الإسكان والعمران وجاذبة للاستثمارات وبيوت المال العالمية محل احترام العالم ومؤسساته الدولية، ولذا بات نموذجاً يقلد في بلدان كثيرة من أجل المزيد من العمران والتشييد وبناء المساكن والتغلب على مشكلة التكدس السكاني.

فإذا كانت فرنسا قد قدمت نموذجها في الثقافة والتنوير، وإذا كانت ماليزيا قد عرفت بنموذجها في التقنية، والصين بنموذجها في النمو الاقتصادي، فإن البحرين قد عرفت بنموذجها في العمران والتنمية. حيث تذكر الإحصاءات أن البحرين قد استطاعت أن تزيد من مساحتها بمقدار يقترب من النصف خلال العقود الماضية.

لقد استطاع النموذج البحريني أن يعمل على مدى الأربعين عاماً الماضية من أجل أن يجنب البحرين مشكلات سكانية ومرورية كانت يمكن أن تمثل عائقاً في طريق التطور حيث سعى لإيجاد مساحات أرض إضافية باتت أبرز مناطق البحرين الآن في الجفير والحد وأمواج والسيف وغيرها بعد أن كانت مجرد شواطئ ضيقة تمثل مراسي لبعض المراكب الصغيرة.

فالمعالم الحضارية التي يتباهى بها كل بحريني الآن ما كان لها أن تبرز للوجود لولا هذا الفكر والتخطيط على مدى سنوات طوال، تلك المعالم التي تنال إعجاب كل الزائرين والسياح من الأجانب والعرب مثل العدد الهائل من المجمعات التجارية والبنايات العملاقة والحديثة التي تناطح السحاب وتتميز بفكر وتصاميم معمارية متميزة في السيف والمنطقة الدبلوماسية والجفير وخليج البحرين وغيرها.

كما استطاعت البحرين بهذا النموذج العمراني أن توفر مساحات أرض استخدمت للصالح العام واستكمال مؤسسات الدولة حيث استغلت هذه المساحات الجديدة في إنشاء أكبر مساجد البحرين وهو مسجد الشيخ أحمد الفاتح وديوان الخدمة المدنية والمعهد الديني ومتحف البحرين الوطني والمسرح الوطني والعديد من المراكز الصحية والمدارس والمؤسسات مما يصعب حصره، وكلها مرافق عامة تدل على الشكل الحضاري والمدني للبحرين كدولة مؤسسات عصرية.

وكان من نتائج هذا الفكر العمراني أن قدم مفهوماً مغايراً «للقرية» يختلف عن مفهومها لدى دول العالم، فالقرية لدى الدول الأخرى هي الأقل في الاهتمام مقارنة بالمدينة في المياه والإنارة ورصف الطرق والتنظيم العمراني والأندية الرياضية والاجتماعية والثقافية وغيرها، وعلى العكس في البحرين فقد تساوت القرية مع المدينة بل والعاصمة في نيل نصيبها من هذه المرافق ولم يعد لها من سمات القرية سوى الاسم فقط، فقرية مثل الزنج وغيرها، بها مدارس وجامعات وفنادق ومولات تجارية وسفارات وغيرها مما لا يجتمع في أرقي المدن في دول أخرى، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على المساواة والعدل ما بين القرية والمدينة والعاصمة في الاهتمام الحكومي بتنميتها حضارياً وعمرانياً.

ولم يكن للبحرين أن تدخل عالم المدنية أو أن تتبني مشروعها الإصلاحي دون وجود الأرض التي تقيم عليها مؤسساتها ومصانعها ومراكزها التجارية وفنادقها ومقارات البنوك العالمية التي وجدت في البحرين مستقبلاً واعداً لاستثمار أموالها دون وجود هذه الأراضي والبنايات المقامة عليها، وهو ما قاد لنهضة سريعة خلال العشرين عاماً الماضية.

إن مثل هذا التخطيط العمراني المتميز كان له الكثير من النتائج الإيجابية باعتباره الحل الأول والأمثل للبلدان حتى تستطيع أن تلبي الوفاء بمتطلبات الزيادة المطردة في السكان والخروج من تكدس المدن والأحياء القديمة إلى جانب تطبيق الفكر الحديث في تصميم المدن والمناطق الجديدة.

والمؤكد أن هذا الفكر العمراني والحضاري الذي قفز بالبحرين نحو الحداثة والمدنية ما كان له أن يتم لولا وجود قادة سابقين بفكرهم وتخطيطهم للزمن وقادرين على استشراف مستقبل بلدانهم في مقدمتهم صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رئيس الوزراء الموقر، والذي قدرت الأمم المتحدة إنجازاته في هذا المجال حين منحته جائزة الأهداف الإنمائية للألفية في 2010 في احتفال كبير في نيويورك حضره عدد من رؤساء الدول والحكومات وكبار المسؤولين ورجال السلك الدبلوماسي في الأمم المتحدة ولفيف من الفنانين ورجال الإعلام العالمي، لتكون هذه الجائزة هي ثالث جائزة دولية ينالها سموه من الأمم المتحدة، بعد أن نال جائزة الشرف للإنجاز المتميز في مجال التنمية الحضرية والإسكان وجائزة ابن سينا من منظمة «اليونسكو» عن اهتمامه بالتراث والثقافة.

والسؤال الذي يرد للذهن في النهاية.. ماذا سيكون الحال الآن لو لم تتبنَ البحرين مشروعات زيادة مساحة اليابسة؟ والإجابة البديهية.. المساحات ستظل قليلة وأسعار الأراضي أكثر ارتفاعاً ومشاكل الإسكان والمرور أكثر حدة، وبالتالي ستهرب الاستثمارات الأجنبية إلى دول أخرى، والنتيجة ينكمش الإاقتصاد وتقل فرص العمل أمام الشباب.

* أستاذ الإعلام وعلوم الاتصال – جامعة البحرين