ليلتها... كان النور على موعد مع الظلام، وعلى عكس ما تحكيه كل الأساطير الدينية القديمة، فقد غلب الظلام النور. فهل قهر الظلام النور لأن الوقت كان ليلاً؟ أو أن تلك الليلة كانت فصلاً من ليل بهيم طويل سيلف المنطقة ظلامه؟. كانت صدفة، ثم صارت علامة، وبعد ذلك أصبحت دلالة، أن يتواجد المخرج العربي العالمي مصطفى العقاد في ذات الفندق الذي استهدفه بعض إرهابيي القاعدة بتفجيرات عمان في خريف عام 2005.

كان قد مر عامان على سقوط العراق في يد الاحتلال الأمريكي. استبدل الناقمون على العهد الصدّامي الميليشيا الشيعية ومجاميع القاعدة بحزب البعث، فدبت الفوضى في بلد كانت القبضة الأمنية فيه ترهب «الطير الطاير في السما». كان العراق بلد النور والصناعة والعلوم والكتب والجامعات والمستشفيات والجسور الضخمة. كان رمزاً حضارياً منذ العهد الملكي، وكان العراقيون يعكفون على تطويره جيلاً بعد جيل، حتى أوشك أن يغادر مقعده في مدرج الدول النامية ويلتحق بميدان الدول المتقدمة. ولكن... تم جره في عام 2003 إلى غيابات الجاهلية الأولى، لتخرج منه كل الظلاميات الطائفية والفاسدة ومتعددة الولاءات التي ستنطلق كالأشباح في باقي المدن العربية.

اجتهدت الميليشيا الشيعية في عمليات القتل على الهوية. وفي تطهير أغلب مدن الجنوب من أي لون يخالف طيفها. واجتهدت مجاميع القاعدة بزعامة أبي مصعب الزرقاوي بالتفجيرات في المناطق الشيعية وتهجير المسيحيين وتصوير قطع رؤوس الصحافيين الغربيين وبثها في الإنترنت. وواحدة من إنجازات تنظيم القاعدة، حسب اعترافه، إرسال فرقة تفجير لاستهداف مجموعة من فنادق العاصمة الأردنية عمان التي كانت مكتظة بالنازلين والمحتفلين لأكثر من سبب. وصادف أن كان هناك المخرج العالمي مصطفى العقاد مع ابنته، فقتل مضيفاً، بموته، العار الثقافي والحضاري على شناعة الجريمة.

في العام 1976 بدأ المخرج العالمي عرض فلمه العظيم (الرسالة). قدم الفلم عرضاً تاريخياً وفنياً للحقبة التي أضاءت فيها (الرسالة) المحمدية صحراء مكة المسكونة حينها بالأصنام والعبودية والقبلية والثأر. جسد الفلم ديناميكية الصراع بين الدين الجديد بقيمه وشخوصه ونضاله، وقيادات الجاهلية المكية بقيادة هبل وهند بنت عتبة ووحشي. انتصر فلم الرسالة للإسلام وأنتج في نسختين، واحدة عربية بممثلين عرب، وأخرى أجنبية بممثلين غربيين وبطولة الممثل الإيطالي الشهير أنتوني كوين. وقد حقق الفلم نجاحاً كاسحاً في العالم الإسلامي والغرب. وإن عملت بعض قوى الظلام المعششة في بعض المفاصل العربية على محاربته ومنع عرضه. في العام 1981 كان مصطفى العقاد يعرض فلمه العظيم الآخر، عمر المختار، الذي عرض في نسخته الإنجليزية باسم أسد الصحراء. ربما ما كان لكل هذا العالم أن يضج بالتعرف على شخص الشيخ المجاهد عمر المختار لولا فلم العقاد. أبهرت شخصية المختار ملايين العرب والغربيين. شيخ في السبعين من عمره يقود جيشاً معظمه من المشاة الحفاة، وقلة منهم يمتطون الخيول في مواجهة واحد من أعتى جيوش العالم حينها، الجيش الإيطالي المدجج بالدبابات والمدرعات والطائرات. لغة الفلم والخطاب الوطني والنضالي الذي عبرت به شخصيات النضال الليبي، والإنتاج الضخم المبهر في عرض التباينات بين قوة الغازي وصلابة روح صاحب الأرض جعلت الفلم يحيا طويلاً على الشاشات العربية. وصار بصمة نضالية قد يجد العرب أنفسهم فيه حتى في هذه اللحظة.

نجح العقاد رحمه الله في تعريف الغرب بنور الإسلام، وعدالة قضايا الاستقلال العربي. وجعل مبدعاً عظيماً مثل أنتوني كوين ممثلاً عنا وصوتاً لنا ووجهاً عربياً أبيض البشرة يطل على العالم بقبول كامل. مصطفى العقاد مبدع عربي استثنائي، سخر السينما لخدمة القضايا التنويرية، ومواجهة ثالوث الظلام المتمثل في عبادة الأصنام وما وراءها من فلسفة، وفي اضطراب العلاقة مع الآخر الغربي، وفي الاستعمار الذي يجدد كل يوم شكله للبقاء بمصالحه في الوطن العربي. وكانت آخر طموحات المرحوم مصطفى العقاد أن ينتج فلماً حول شخصية صلاح الدين الأيوبي وتحريره لبيت المقدس من الاحتلال الصليبي. ولكن نيران الظلاميين قتلت العقاد ولم ير صلاح الدين النور.