قد يكون من المناسب في أول مقال خلال العام الميلادي الجديد أن نتحدث قليلاً بعيداً عن السياسة التي شغلت بالنا وبال الجميع طوال العام الماضي، فتلك السياسة وإن كانت من الضروريات، لكنها لا ينبغي أن تشغلنا عن مسائل أهم صرنا لا نلقي لها بالاً، بعد أن كانت في فترات محددة هي محور الاهتمام والانشغال.

لم أكتب قط في الموسيقى رغم شغفي بها، لكنني بصدد الحديث عن موضوع في الفن والموسيقى ببعد مختلف قليلاً، سأتحدث عن الظاهرة التي باتت قيد التشكيل، وهي ظاهرة الموسيقار الدكتور مبارك نجم قائد الفرقة الموسيقية للشرطة الذي يقود الفن البحريني نحو آفاق مختلفة ومبتكرة وغير تقليدية.

لم نتوقع أن تتحول الأغاني الوطنية والعاطفية البحرينية إلى قوالب أوركسترالية رائعة دشنها في ألبوم مؤخراً، وأقام بمناسبة الأعياد الوطنية حفلاً مميزاً بمصاحبة أوركسترا بلغاريا السمفونية في المسرح الوطني.

من يسافر على الناقلة الوطنية طيران الخليج اليوم بإمكانه أن يستمتع بهذه الألحان البحرينية الأوركسترالية في بداية الرحلة ونهايتها، وبعض المجمعات التجارية والمقاهي صارت تحرص على تشغيل المقطوعات طوال اليوم ليستمتع بها روادها، وبلا شك هناك عشرات الآلاف الذين استمعوا للألحان البحرينية الأوركسترالية الرائعة حول العالم لأنها صارت متاحة عبر تطبيقات الموسيقى في الهواتف الذكية.

الظاهرة التي شكلها الموسيقار الكبير مبارك نجم أكبر من أن يسطرها هذا المقال، حيث آمن بجمال فن البحرين وتراثها، فوظف هذا الفن وقدمه للعالم بشكل عصري مختلف في رائعة أوركسترالية ستظل باقية تتناقلها أجيال تلو الأخرى.

الدكتور نجم قدم مثالاً رائعاً لكيفية توظيف الموسيقى باعتبارها عنصراً أساسياً في القوة الناعمة، في وقت تعب فيه البحرينيون من إيصال قوتهم الناعمة في الداخل والخارج إثر انشغالهم المفرط بالسياسة وتعقيداتها.

نحن بصدد نموذج مهم يمكن من خلاله التأثير عالمياً، ونشر الثقافة البحرينية وتسويق تراثها العريق بقوالب عصرية تحاكي المستجدات الحديثة التي طرأت في المجتمعات بعد ثورة التواصل الاجتماعي.

بالفعل هو درس مهم في إيصال الرسائل الإعلامية المهمة بتكلفة تتناسب وإمكانيات الدولة دون الحاجة لإرسال وفود شعبية أو التسويق من خلال شركات العلاقات العامة الدولية أو حتى بعثاتنا الدبلوماسية حول العالم.

لدى البحرين مقومات ممتازة لتسويق ما تمتاز به، سواء أكان موسيقى، أو تراثاً، أو تاريخاً، أو أدباً، أو حتى قيماً وطنية أصيلة مثل التعايش والتسامح التي ما زالت تنتظرها الفرص والدعم الكافي.

مقومات القوة الناعمة البحرينية هي مجالات خصبة تنتظر الاستثمار من القطاعين العام والخاص، ولا تحتمل التأخير إذا كنا نبحث عن هذه القوة المفقودة منذ سنين طويلة، ولا يمكن النظر إليها على أنها كماليات أو مظاهر للرفاهية، لأنها قبل ذلك كله تعد من عناصر الأمن الوطني غير التقليدية. لاحظنا ذلك في الدور الذي يمكن أن تضطلع به الرياضة، وكذلك الفن.

المفاجئ في ظاهرة الدكتور مبارك نجم كشفه عن مشروع فني جديد بتحويل الفلكلور البحريني إلى قوالب أوركسترالية، قدمه خلال حفله في معزوفات لوحات الجلوة وتوب توب يا بحر إلى أوركسترا رائعة أذهلت الجماهير، وهو إصرار على تقديم دروس أخرى.

شكراً للموسيقار الدكتور مبارك نجم على هذا الدرس، وما زالنا ننتظر نتاج مبدعي البحرين الآخرين.