يستلزم الحديث عن الهوية الوطنية الجامعة البحث في العلاقات التي تجمع مكونات نسيج اجتماعي معين على أرضية «المواطنة المتساوية»، وبمعنى أكثر تحديداً، العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي تعبر عن مجمل الاحتياجات الأساسية لشرائح المجتمع ومصالحها.

هذه العلاقات الجمعية تخفف من حالة استنهاض الهويات الصغيرة الفرعية داخل المجتمع نفسه في مقابل الهوية الجامعة الممثلة لمصالح الكل، فالهوية «الدينية – المذهبية – المناطقية – القبلية» وغيرها من التصنيفات موجودة داخل النسيج الاجتماعي ويمكن خلقها أو استنهاضها في حالة الخلافات السياسية أو الاجتماعية.

غير أن الهوية الجامعة -وإن كانت لا تلغي الهويات الفرعية المكونة للمجتمع- إلا أن بإمكانها التخفيف منها إلى الحد الذي لا يمكن إدراك آثارها أو تأثيراتها فيه، وحتى الحؤول دون حالة استنهاضها من جديد.

إن الهوية الجامعة لا يشكلها عنصر دين بمفرده أو عنصر طائفة أو عنصر جغرافي أو تاريخي، بل إنها مزيج من ذلك كله، أي أنها مزيج معقد من عناصر الدين والسياسة والثقافة واللغة والموقع الجغرافي والذاكرة التاريخية المشتركة.

وغرس تلك الهوية يبدأ من البيت ثم تعزز في المدرسة بمنهج وطني شامل، وتقوى في المسجد وفي الشارع وفي كل مكان يرتاده الناس، وفي الإعلام، وبسياسات وطنية استراتيجية عامة، وبتشريعات قانونية صارمة لا تقبل المساس بأسس المواطنة المتساوية.

ففي ظل عالمٍ ينهكه التشظي وذاق -ولايزال- ويلات الحروب والمعاناة الناجمة في كثير منها عن الانغلاق وتخندق الهويات الفرعية، وما ينتج عنه من تمزق في النسيج الاجتماعي، واشتعال الفتن، فإن الحاجة تكون أشدّ إلى التخلي عن تلك الهويات الصغيرة المتفرقة أو -اتخاذ موقف اعتدالي وسطي على الأقل اتجاهها- والتماهي في الحلقة الأكبر والأقوى.. هوية الوطن الجامع.

وهذا في واقع الحال ما يتفق مع رؤية جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، حيث يستذكر معالي وزير الداخلية الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة في سياق كلمته التي ألقاها أمام جمعٍ من المواطنين منذ أيام أن أول توجيه استلمه من قبل جلالته -قبل أكثر من عشر سنوات- كان «تذكر إنك لخدمة الجميع».

وإنني لأجد في كلمات جلالته الأربع تلك أصدق تعبير عن مفهوم الوطنية الجامعة، حيث إن كل فرد في هذا المجتمع ومهما كانت وظيفته أو منصبه أو حتى هويته الفرعية «دينه، طائفته، عائلته، قبيلته، ووو» فإنه لخدمة مجتمعه كله، وتزداد مسؤولية الفرد في ظل هذا المفهوم بازدياد حساسية موقعه.

وبذلك فإنه من الجيد هنا أن صناع القرار يدركون ملياً تعاظم أهمية الهوية الجامعة، وما مبادرة وزير الداخلية ذات العناصر الخمسة والرامية إلى تعزيز المواطنة لدى البحرينيين إلا خير دليل على ذلك، هذا بالإضافة إلى الجائزة السنوية التي أعلن عنها معاليه لأفضل عمل لتعزيز الولاء والمواطنة وترسيخ قيم الوطنية والانتماء، الأمر الذي من شأنه خلق حالة من التنافس الصحي نحو تعميم مبدأ الهوية الوطنية الجامعة والترويج له.

ما أمسّ حاجتنا اليوم إلى الانصهار في بوتقة الهوية البحرينية الجامعة لكافة مكونات هذا الشعب العظيم الطيب الكريم، وذلك عبر استدعاء كافة العوامل والوسائل والسبل الرامية إلى استنهاض الهوية الوطنية وتعزيزها وتقويتها وجعلها أساساً للمضي قدماً في مشروع التنمية الشاملة والمستدامة الذي نصبو إليه.

* سانحة:

«إن ابن الطائفة البار لا يستطيع أن ينضم إلى الطائفة الكبرى انضماماً صادقاً ثابتاً وثيقاً، سياسياً وثقافياً، قبل أن يتجه بقلبه إلى الوحدة الوطنية، وقبل أن ينبذ، من ذهنه ومن إرثه، التقاليد الطائفية التي تحول دون ذلك الاتجاه». «أمين الريحاني».