أثرى المفكر والفيلسوف الأمريكي أفرام «إبراهيم بالعربية» نعوم تشومسكي العالم بتحليلاته السياسية التي توضح ما لا تظهره وسائل الإعلام في نقلها السطحي والمنقوض للأخبار. هذا الرجل الذي لا يتوقف عن تقديم المحاضرات والظهور في المقابلات التلفزيونية وكتابة الكتب على الرغم من تقدمه في العمر «89 عاماً» موسوعة مليئة بالمعلومات القيمة.

تشومسكي، يهودي أشكنازي هاجر أبواه إلى الولايات المتحدة قبل ولادته. وعلى الرغم من تربيته اليهودية التي تعلم من خلالها العبرية، إلا أنه تشرب الفكر اليساري منذ صغره من خلال محيط عائلته وقراءاته المتعددة وبهذا ابتعد كثيراً عن الدين والتدين واستبدلهما حسب قوله بقيم إنسانية يسير بها حياته. ومع ذلك فهو لا يعارض المعتقدات الدينية ولا يكفر بها كما جرت العادة عند السواد الأعظم من اليساريين.

ينسب له تحديث علم اللغويات من خلال نظريات ودراسات جديدة، فهو قامة علمية كبيرة، ويعرف عنه اهتمامه بالتاريخ والسياسة والإعلام وله آرائه المثيرة حولها مما دفع البعض إلى تتويجه بلقب «أعظم رجال الفكر في أمريكا».

تشومسكي يتخذ موقفاً مناصراً للقضية الفلسطينية ويوضح أن إسرائيل التي تأسست على يد يهود أوروبا ما هي إلا حلقة من حلقات مسلسل الاستعمار الغربي للدول العربية. كما أكد أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تعتبر إسرائيل حليفاً فقط، بل هي أحد أذرعها في الشرق الأوسط وتستخدمها كشرطي يحفظ أمن المنطقة مستشهداً بحرب 67 كنقطة بداية للعلاقة الحميمة بينهما ومبيناً أن إسرائيل قدمت خدمة كبيرة لأمريكا في تدمير قدرات عبدالناصر العسكرية بعد أن شعرت الأخيرة بخطورة مصر الناصرية على مصالحها في منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط.

ويؤكد أن دعم أمريكا لإسرائيل يعود جزء من أسبابه إلى وجود قاعدة انتخابية كبيرة ومؤثرة في صنع القرار في أمريكا يطلق عليها اسم «الصهاينة المسيحيون»، وهم فئة متشددة من المسيحيين البروتستانت الذين يؤمنون بعودة اليهود إلى فلسطين - حسب تفسيراتهم للإنجيل - التي بدورها تمهد إلى ظهور نبي الله عيسى عليه السلام. ومع ظهور المسيح تبدأ معركة الخير والشر في تل المتسلم شمال فلسطين بحيث ينتصر أحباب المسيح «الخير» على أعدائه «الشر» ولا يبقى منهم سوى المؤمنين من أتباع الديانة المسيحية.

واليهود في تلك المعركة المرتقبة أما أن يؤمنوا بالمسيح ويدخلون في دينه أو أن يهزموا أسوأ هزيمة. والواضح أن الإصرار لدى «الصهاينة المسيحيون» على عودة اليهود إلى فلسطين لا يأت حباً في اليهود وإنما رغبة منهم في أن تتحقق الرؤيا التي وعدها بهم إنجيلهم والتي تنتهي بانتصار المسيحيين على باقي الأمم والديانات.

كما يبين «إبراهيم تشومسكي» أن فكر «الصهاينة المسيحيون» كان السائد بين أوساط الفئة الحاكمة في بريطانيا قبل وخلال وعد «بلفور» وكان هو المحرك الرئيس لتقديم أرض فلسطين لليهود. وكان كذلك مسيطراً على وجدان الرئيس الأمريكي المتدين «ترومان» في عام 1948 الذي اعترف بإسرائيل كدولة على الرغم من معارضة عدة جهات رسمية للقرار خاصة وزير خارجيته آنذاك.

جرأة تشومسكي في الطرح والمغايرة لما هو سائد عند طبقة المفكرين والإعلام في أمريكا لا تتوقف عند القضية الفلسطينية أو الصراعات العربية الإسرائيلية بل تتعداها لتصل إلى البيت الأبيض نفسه. فهو من كبار منتقدي الرؤساء الأمريكيين وسياساتهم الداخلية والخارجية.

ففي إحدى لقاءاته المصورة ذكر أن جورج بوش الابن وبغرض حشد التأييد لغزو العراق زار الرئيس الفرنسي جاك شيراك. وبين أن خلال اللقاء تحدث بوش بحماسة وانفعال عن «يأجوج ومأجوج» اللذين قد يخرجا من «العراق» ليدمرا العالم، ولم يعرف شيراك معنى الكلام فلجأ إلى وزارة الخارجية للاستفسار عن «يأجوج ومأجوج» مما اضطرها إلى الاستعانة بعالم في الأديان ليوضح لهم ما قصده بوش.

من خلال هذه القصة الحقيقية يسخر تشومسكي من تناقضات الطبقة الحاكمة في أمريكا ومن تأثير المعتقدات الدينية عليها على الرغم من أنها تعمل في دولة يفترض أن تفصل الدين عن السياسة.

يتسلح هذا المفكر في أطروحاته بكم هائل من المستندات والمصادر وكل ما ينشر حول القضايا التي يوليها الاهتمام فلا يتحدث إلا وهو جاهز لمساندة كل ما يقوله بقدر كبير من المعلومات الموثقة مما يجعل متابعته متعة لا مثيل لها وملاذاً لمن يبحث عن إجابات واقعية لقضايا العالم.