عندما سيطر الاتحاديون على حكومة الدولة العثمانية والمجلس النيابي أواخر عهد الدولة، أعدوا لائحة مجحفة بحق الشعب وعرضوها على المجلس النيابي للمصادقة عليها، وهكذا كان الحال مع كل قانون أو لائحة أو ميزانية مجحفة بحقوق الشعب، فالاتحاديون كانوا أغلبية في المجلس، والحكومة بأيديهم، وكان هناك بعض الأعضاء المستقلين، ومنهم أصحاب ضمير يشعرون بوطأة هذه اللوائح المراد المصادقة عليها، ولم يكن بأيديهم المعارضة، فالعضو المعارض نصيبه التهديد بالقتل.

عبدالمجيد الشاوي كان أحد نواب المجلس عن مدينة العمارة في جنوب العراق، وقد شعر بضيق وحرج شديد عندما اطلع على اللائحة المجحفة، فعندما تعرض اللائحة في المجلس لن يكون بإمكانه المعارضة، ولا بد أن يرفع يده بالموافقة مع بقية الأيدي، وفي الوقت نفسه لا يستطيع خيانة ضميره ليوافق على اضطهاد الشعب، يقول بدأت أفكر بطريقة أتخلص بها من هذا العبء الثقيل، وبينما أنا ارتقي سلم السراي في إسطنبول وفكري مشغول باللائحة المشؤومة، اصطدمت بأحد الفرنسيين في أعلى السلم دون قصد، فسقطت متدحرجاً من أعلى السلم إلى أسفله حتى وصلت الأرض وانكسرت يدي اليمنى ونقلت إلى المستشفى، ولما بلغ الخبر أصدقائي في المجلس جاؤوا لزيارتي ومعهم خليل بك رئيس المجلس النيابي وهو من الاتحاديين بطبيعة الحال، وقد بدأ يلاطفني ويخفف عني، ودار بيني وبينه الحوار الآتي:

ـ دفع الله ما كان أعظم ما فيك إلا العافية.

ـ أشكرك.. بس زين صار وانكسرت يدي، أنا مرتاح وسعيد.

ـ عفواً!! .. ليش تتمنى كسر يدك.

ـ طبعا أفرح .. الآن رفع عني التكليف! كيف تريدوني أصدق على لائحتكم؟ أرفع رجلي بدل يدي؟! اليد اللي أرفعها انكسرت والحمد لله.

ـ لكن اللوائح يجب تصديقها حتى لو تكسرت الجماجم؟

ـ المهم ضميري مرتاح.

مرت السنين وتفتتت الدولة العثمانية وتأسست المملكة العراقية، وتقدم العمر بعبدالمجيد الشاوي حتى رأى مجلس النواب في العراق بدورات متعددة وكان شخصياً أحد أعضائه، وكان يقول لرواد مجلسه عن مجلس النواب وأعضائه: «هالشنكة -قطعة العجين التي يمدها الخباز لتكون رغيفاً- من نفس العجينة، بس نوابنا أفظع فبعضهم يمسك التلفون ببيته ويقول للحكومة موافق ويده مرفوعة وهو في بيته» ويقصد أن مجلس النواب وأعضاءه لا يختلف كثيراً عن المجلس النيابي العثماني والمنهج واحد.

ليته رحمه الله حيا ليرى أن بعد قرن كامل من الزمن مازالت العجينة نفسها موجودة وتسحب منها القطع، وفي دول عدة من دول العالم، مع فارق بسيط، فالتهديد لم يعد سياسة متبعة في العديد من الدول، وحل محله سياسة الامتيازات التي يتمتع بها عضو البرلمان، فيجتهد لدخول المجلس طمعاً بها، ويصادق على كل القرارات أملاً في الحفاظ عليها، المجلس النيابي مهمته تشريع القوانين والمصادقة على سياسات الحكومة أو رفضها، ومراقبة عمل الحكومة، لا أن يقول نعم بغير حق، وما لم يكن النائب حراً فلن تكون المجالس النيابية إلا ديكوراً استهلاكياً، ولن يكون النائب حراً مادامت الامتيازات تطوقه.