عندما تشاهد هنا وهناك قطرات دم الأبرياء تتساقط بفعل إرهابي يعتصر القلب ألماً ويحجب الألم قدرة بَعضُنَا عن نطق الكلمات لتجد الصمت هو سيد الموقف، ذلك الصمت الذي سرعان ما يبدده كوامن الخوف على مستقبل أمتنا فيتحول إلى رغبة عارمة في الفعل المساهم في إعادة البناء، ولو بكلمات مدروسة للتخلص من هذا الإرهاب، كلمات تحاول الإجابة على تساؤلات الكثيرين الممتزجة بفيض من الألم والغضب في نفس ذات الوقت، والتي تتعجب بأي منطق أو عقل يقتل هؤلاء الأبرياء؟!! أي عقل هذا يبرر تدمير الأوطان؟!! ألا يعلم هؤلاء حتى الآن أنهم يستخدمون من قوى إقليمية كانت أو دولية ذات أيديولوجيات محددة للقضاء على أوطانهم؟!! ألا يشعر مدعو الدفاع عن العقيدة هؤلاء أنهم أداة تستخدم لضرب الإسلام بالإسلام نفسه بنسبة تهمة الإرهاب لعقيدتنا؟!! ولأن الغضب والألم لن يستطيعا أن يجترا هذا الإرهاب من عالمنا علينا أن ننحي آلامنا جانباً ونبحث في أصل هذه الظاهرة عَلنا نجد الإجابة على هذه التساؤلات ونمهد طريقاً يسهم في النجاة.

فلو بحثنا في الأسس الفلسفية لما عرف «بأيديولوجيا الإرهاب» لوجدناها اتخذت3 مناحٍ، أولها، ما عرف «بالعقلانية ما قبل المنطقية».. والتي أسست انطلاقاً من حتمية الدعم الإلهي لفرقة ناجية من المؤمنين تعتقد بحتمية انتصارها المسلح على خصومها، لأنها اختصت بمدد ودعم إلهي تحتكره دون غيرها.. وتلك الفلسفة هي التي يبررون بها تلك الأعمال الإرهابية الانتحارية التي يقوم بها هؤلاء.. أما المنحى الثاني، والذي عرف «بانتصار الأيديولوجيا»، وهو منحى حداثي يتطلب من وجهة نظرهم هدم وتقويض نموذج الدولة القومية لحساب الأيديولوجيا.. وبالتالي فلا أهمية لأي وطن أو دولة على حساب الأيديولوجيا.. وهو ما يبرر من وجهة نظر الإرهابيين تلك الأعمال التخريبية التي يقومون بها داخل البلاد الإسلامية. وللأسف فإن طبيعة أو آلية بناء جماعات النقاش عبر الإنترنت تتم أو تبنى وفقاً لهذه الفكرة حيث إن المجموعات عبر مواقع التواصل الاجتماعي هي «مجموعات اهتمام بالأساس»، يميل فيها الأفراد نحو من يشاركهم نفس الفكر وهو ما له أساسه النظري المعروف بنظرية التوافق المعرفي.. ويفسر ذلك كون الإنترنت من أكثر الوسائل التي تستخدمها تلك الجماعات لاستقطاب وضخ دماء جديدة للإرهاب.

أما المنحي الأخير فهو المتعلق بفلسفة «الجاني والضحية».. والتي أسست على فكرة «المظلومية» ومفادها أن العالم ضد الإسلام وبالتالي فإن النتيجة المنطقية هي أن الإسلام ضد العالم.. تلك الفلسفات القائمة على تدين العداء والكراهية يتم بمقتضاه تبني اتجاهات عدائية إزاء غير المسلمين بل وإزاء المسلمين ممن يخالف أفكار هؤلاء الإرهابيين. وهو ما يتناقض مع قول الله تعالى «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».

ولعل المدقق للمناحي الثلاثة سابقة الذكر يمكنه أن يستبين بوضوح أن جميعها تؤسس لحالة من الصراع الوهمي بين «المجتمع والذات الإرهابية» التي تستهدف تغيير العالم انتصاراً لأيديولوجيتها المتطرفة.. وهنا مكمن الخطر.. فالالتزام الشديد بمعتقدات تحمل تلك الشحنات الصراعية يغلق الطريق أمام قدرة تلك العقلية على التعايش مع الآخر وتقبل أي رؤى مغايرة، كما أن الصراع بطبيعته يجلب معه التعصب ويبرر لأصحابه استخدام كافة الوسائل لحسمه لصالح أحد الأطراف المتصارعة، وهنا تبرز النقطة المحورية في قضية الإرهاب فمنشأ تلك القضية بالطبع ليست في العقيدة، ولكنها في ذلك الفكر العنيف الذي يقدس ليتحول إلى حالة صراعية.. تستخدم كأداه تمزق المجتمع وتهدد مسيرة البناء فيه مثلما تهدد أمنه القومي واستقراره، لا سيما إذا كانت هذه الجماعات ذات أجندات سياسية ومدعومة من قوى إقليمية أو دولية لها الأهداف نفسها.

ولعل السؤال المنطقي الآن، ما هو سبب ظهور تلك المناحي الفكرية التي تأسس عليها الفكر الإرهابي؟ الواقع أن الإجابة ليست بالهينة فسلسلة المغالطات التي تكون العقلية الإرهابية تشكلت حلقاتها الأولى نتيجة القياس الخاطئ والتأويل المنحرف الناتج عن اجتزاء القراءة للآيات القرآنية وعدم ربطها بالآيات ذات العلاقة.. لوضع تفسيرات أخرى بعيدة عن مكنونات النص القرآني.. مضافاً إلى ذلك عشوائية الفتوى الصادرة عن هذه الجماعات.. وتوظيف التأويل لإضفاء الشرعية الدينية على أساليب العنف التي تتبناها، وللأسف فإن المتهم الأول في هذا السياق هو ضعف الآليات التي يعتمد عليها الخطاب الديني المعتدل والوسطي في التواصل الفعّال مع الجماهير ليتشبعوا به ويكسبهم المناعة ويبني لديهم ثقافة المقاومة ضد أي فكر منحرف أو متطرف يأتي من صوب هذه الجماعات الإرهابية.

وللحديث بقية..

* أستاذ الإعلام الرقمي المساعد