قامت الحضارات العظيمة منذ فجر التاريخ على الأفكار والخواطر والتجريب والنقد والتحليل والاستنباط والاستقراء والتدبر لحركة الحياة الطبيعية والبشرية ومن سنن الله في خلقه التطور الذي ينشأ من تراكم التجارب والخبرات، كما أن لكل حضارة خصائصها وتفرداتها علمياً وأدبياً.

من هنا يترسخ في وعينا أن العقل هو البداية فبه نفكر ونؤمن ونتحاور ونتفاوض ونتعلم ونعلَّم ونعلِّم ونبتكر ونفهم مواطن الخلل لكى نقوِّم الاعوجاج ونحافظ على الاستقامة قولاً وحالاً.

بالعقل يتحول التراب إلى ذهب والخراب إلى عمار والفكرة إلى واقع نعيشه ويتطور، فالعقل هو سر الحياة وبدونه ننعى أنفسنا بأنفسنا قبل الموت.

لذلك يمكن بوضوح أن نفهم لماذا نحن العرب تخلفنا رغم أننا نمتلك أسباب التقدم، لماذا يستمر تخلفنا بل ويزداد رغم أن العالم أصبح قرية صغيرة ورغم أن عقولاً عربية كثيرة ساهمت في نهضة الحضارات الغربية والشرقية من الطيور المهاجرة.

والحقيقة أننا أمة تعادي العقل وتكبله بقيود مما خلق مناخاً معطلاً للإبداع مقيداً للحريات منافقاً للعادات والتقاليد، العقل العربي عقل روائي يحب الرواية والعنعنة ويحب أن يعيش أسيراً للماضي، العقل العربي مسجون في سجن القصص والحكي والتراث الشعبي.

لا أدعو بالطبع لنبذ الماضي والتنكر للتراث والثقافة فالعالم كله يحتفى بالتراث الإنساني ولكنه احتفاء بالعقل هدفه معرفة كيف تطورت الحياة وكيف كان يعيش القدماء لا لنستنسخ الماضي في حاضرنا ووعينا ونعيش غرباء في زمن الحداثة والتحديث كما نفعل نحن، عندما نسمع خبراً لا نقول كيف حدث ذلك ولماذا؟! ولكن نقول.. من قال ذلك؟!!

لقد نشأنا وتربينا على شخصنة المواقف والأحداث لا تحليلها وتفنيدها لمعرفة الأسباب.. كل نتيجة تسبقها مقدمات.. وكل حركة وراءها محرّك فالأحداث والوقائع لا تحدث ذاتياً!!

لقد ضاعت منا الحقيقة والتسلسل المنطقي للأحداث في متاهات الرواية والهوى الشخصي والمزاج العام، وغرق العقل في مستنقع العادات والتقاليد حلوها بمرها، حتى أصبحنا كالقشة في مهب الريح لا ندرى أين ومتى نستقر.. نسأل الله العفو والعافية وسلامة العقل!