بعد أن فندنا في المقال الأول فلسفات الفكر الإرهابي أو أيديولوجيا الإرهاب واستطعنا استنباط إلى أي مدى تؤسس جميع هذه الفلسفات لصراع ما بين أفراد الجماعات الإرهابية وما بين المجتمعات.. هنا أكاد أسمع أصواتاً تردد ألم نلحظ هذا القصور قبل الآن.. لكن دعني أرد عليها عَل نسمات الأمل تمتلئ بها الصدور.. فبالرجوع إلى التاريخ نجد أن الإصدار الأول لفكرة تجديد الفكر والخطاب الديني له جذور تاريخية ارتبطت بظروف متشابكة ومربكة حقاً، إذ نبعت كرد فعل على التحدي الاستعماري الغربي ومناهض لهيمنته الثقافية. حيث بدأ كرد فعل للحملة الفرنسية على مصر 1798 ومع معاهدة باريس 1858 التي أنهت حرب القرم وأدخلت الدولة العثمانية في مفاوضات مع روسيا وبريطانيا وفرنسا لأول مرة. وهنا جاءت استجابة المفكرين الإصلاحيين لتلك الهجمة في شكل محاولات لتجديد الفكر الديني ليولد من رحمه فكرة «الوحدة الإسلامية»، كمشروع سياسي يوحد الشعوب المسلمة، وظهرت أفكار التجديد والإصلاح على يد بعض المفكرين الإصلاحيين أمثال محمد عبده ورشيد رضا وغيرهما والتي حاولت مقاومة التأثر الثقافي بالغرب، فتعمقت في التراث الإسلامي وحاولت مواكبة مستجدات الثقافة الغربية وتقليص الفجوة بين العالم الإسلامي والغربي واعتقدت بوجود «إسلام حقيقي» أخفته التصورات الخاطئة وهو قادر على تصحيح الأوضاع، كما حددت آليات علمية وتاريخية بالعودة للقرآن والسنة وتراث السلف الصالح، مع الاقتباس «المدروس» من الغرب، إلا أنه وللأسف -كما رأى بعض المفكرين- لم يكن لهذه المحاولات إطار منهجي واضح، كما أن مشروع التجديد اقتصر على النخبة ولم يتحول إلى عمل مؤسسي، وهو ما أثر سلباً على المحاولات الإصلاحية الجادة لهذا العصر ولم توفر له الزخم للتواجد والانتشار وهو ما قاد إلى خفوته مع مرور الزمن.

إلا أنه أعيد مرة أخرى مع أحداث 11 سبتمبر 2001 والتي صنفت غربياً على أنها «إرهاباً إسلامياً» مما استدعي معها إعادة تعالي الأصوات المنددة بالراديكالية الفكرية والمطالبة بإحياء فكرة تجديد الفكر الديني، والحقيقة أن تلك اللحظة ولد من رحمها موقف شديد التعقيد والارتباك لسببين: الأول: مرتبط بأنه استدعي معه ما عرف «بالحرب على الإرهاب»، والتي ولدت من الكيان الغربي وبالتالي تم تفسيرها.. من قبل التنظيمات الإرهابية «القاعدة وقتها».. والمتعاطفين معها.. بل والكارهين للتدخلات الغربية في عالمنا العربي والإسلامي.. على أنها «حرب ضد الإسلام» وهو ما ترتب عليه المزيد من فكرة المظلومية وتأجيج لمشاعر الصراع، أما السبب الثاني نتج عن تعالي أصوات تنادي بنسف التراث ومقاطعته والذي يعد شكلاً من أشكال التطرّف المضاد، وهنا مكمن الخطر، إذ تحولت «الحرب على الإرهاب» إلى «حرب أفكار».. كما قادت المناداة بنسف التراث من ناحية وظهور مفاهيم كالإسلام العلماني والليبرالي إلى إعادة إحياء الكتابات الراديكالية المتطرفة لتزج بالعنف كآلية ملحة لمواجهة الهجمة الغربية على العقيدة الإسلامية من وجهة نظرهم.

كما أن ثمة تحول تاريخي آخر حدث بعد أحداث ما ادعي أنه «ربيع عربي» والذي ثبت أنه «ربيع عبري» صعدت كنتيجة له التيارات الإسلامية فتعالت أصواتها وقدراتها التأثيرية في بعض الأقطار بل وتقلدت مفاتيح الحكم في أقطار أخرى أبرزها مصر وتونس، وذلك بناء على مواقفه بل وتحت رعاية أمريكية، وهو ما وثقه مثلاً مواقف وخطابات وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة «هيلاري كلينتون» الداعمة للإسلام السياسي في مصر، آملة أن يكون ذلك أحد الآليات الجديدة الداعمة لنمو تيارات إسلام سياسي تم ترويضها نتيجة لاختلاط العقيدي بالأيديولوجي والمصالح والمواءمات السياسية والاقتصادية برؤية الإسلاميين وتعاملهم مع الغرب.

إن إخفاق التيارات الإسلامية بعد فترة وجيزة من تمكينها وفقدانها لغالبية شعبيتها بشكل خرج عن قدرة الإسلاميين والسياسيين الأمريكيين أنفسهم على الاستيعاب، كل ذلك قد استجلب معه تنامي تيارات العنف كرد فعل لاستبعادهم مرة أخرى ذلك الاستبعاد الذي تم بفعل شعبوي وليس بفعل نخبوبي.

وللحديث بقية..

* أستاذ الإعلام الرقمي المساعد