عرف الإنسان التأمين منذ أقدم العصور، وتذكر المصادر التاريخية أن الصينيين القدماء كانوا يلجؤون إلى ما يمكن اعتباره نوعاً من التأمين التجاري، حيث عمدوا على توزيع سلعهم في سفن عديدة للحد من الخسائر، كما برع البابليون في التجارة وسن القوانين ففرضوا نظاماً للتأمين ورد ذكره في شريعة حمورابي، ووفقاً للنظام فقد كان يحق للتاجر الذي استلف مبلغاً من المال لتمويل تجارته أن يدفع للدائن مبلغاً إضافياً لقاء ضمانة الأخير أن يلغي القرض بحال ضاعت الحمولة أو سرقت.

وإذا كان التأمين التجاري معروفاً في الأزمنة القديمة إلا أن التأمين الصحي برز في أواخر العشرينات من القرن الماضي، حيث بدأ العمل بنظام التأمين الصحي كنتيجة للركود الاقتصادي العالمي، فقد أعلنت معظم الدول المتقدمة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أن الرعاية الصحية حق من حقوق الإنسان ولا بد أن يحصل عليها كل فرد مهما اختلف وضعه الاقتصادي.

إن التأمين الصحي ليس تأميناً ضد المرض وإنما تأمين ضد كلفة الخدمة الطبية، أي أن الفرد يدفع مقدماً وبطريقة منتظمة مبلغاً من المال لا يشكل في حد ذاته عبئاً اقتصادياً وهو ما يسمى قسط التأمين، وتوضع حصيلة هذه الأقساط في صندوق خاص تدفع منه نفقات العلاج المرضي حسب الأسس والأنظمة التي تحددها اتفاقية التأمين.

عندما بدأ نظام التأمين الصحي بالانتشار، كانت الفكرة الأولى تكمن في توزيع الخطر على أفراد المجتمع بصورة متساوية، ثم اتضح أن مستوى الاحتياج للخدمات الصحية يختلف اختلافاً كبيراً باختلاف السن والمهنة ومستوى التعليم وخلافه. فمثلاً احتياج الخدمة الصحية يكون أكبر بكثير عند الرضع والأطفال والمسنين منها عند من هم في المرحلة العمرية 15-45 سنة. لذلك بدأت معظم شركات التأمين في استعمال مبدأ تحديد الخطر على أساس الجنس أو المهنة أو الفئات العمرية.

نظراً لأن عقد التأمين من الأمور المستحدثة فقد اجتهد الفقهاء في التوصل إلى حكم شرعي، فمنهم من أجازه مطلقاً وبكل أنواعه، ومنهم من حرمه مطلقاً. ونحن في هذا المقام لا نود أن نتطرق إلى هذا الجانب ولكن أن نتعرف على أهم أنواع التأمين الصحي وفوائده.

يمكن أن يتم تصنيف التأمين الصحي وفق العديد من العوامل وأهمها التصنيف حسب الإلزام أو الاختيار «الطوعي» والتصنيف حسب الربح «استثماري أو لا استثماري»، كما يمكن تصنيفه حسب نوعية الخدمات «شاملاً لمعظم الخدمات الوقائية والعلاجية والتأهيلية أو محدود الخدمات قد يشمل إصابة العمل أو تأمين الحوادث فقط»، وهناك التأمين التجاري والتعاوني.

فالتأمين الإلزامي قد يكون ملزماً لجميع أفراد المجتمع أو لفئات محددة مثل موظفين أو عمال شركات أو تلاميذ مدارس أو غيرهم، وقد يشمل النظام العاملين فقط أو يمتد ليشمل أسرهم. والتأمين الإلزامي لا بد أن يكون حكومياً، وقد يكون التمويل عن طريق اشتراكات خاصة هي في الغالب نسب مئوية من رواتب العاملين وإسهامات خاصة من أصحاب العمل، ويحدد القانون الخاص بالتأمين الصحي الإلزامي فئات المنتفعين ونسبة المساهمة بالنسبة للعامل وصاحب العمل، وقد تقدم الدولة منحة من الضرائب العامة لدعم النظام إذا لم تكن حصيلة المساهمة كافية. أما التأمين الاختياري «الطوعي»، يتم فيه شرح خواصه ومزاياه قبل فتح باب الاشتراك، وقد يدير هذا النظام مؤسسات حكومية أو أهلية.

بينما تكون الإدارة وتحديد من يمكنهم الاشتراك في النظام من حق شركة التأمين في نظم التأمين الاستثماري، حيث إن الشركة المديرة تتوخى استرداد إجمالي كلفة الرعاية الصحية التي تقدمها للمشتركين فضلاً عن التكاليف الإدارية ونسبة مقبولة من الأرباح. في حين تدير نظم التأمين غير الهادفة للربح هيئات غير حكومية بغرض خدمة أفرادها وتخضع للرقابة الحكومية حتى لا يساء استخدامها.

أما بالنسبة للعقد في التأمين التجاري فهو قائم على الربح، حيث تلتزم شركة التأمين بتعويض المؤمن لهم في مقابل استحقاقها لأقساط التأمين، ويكون قسط التأمين مرتفعاً دائماً لتحقيق أكبر قدر من الربح، لأن فائض الأقساط التأمينية بعد دفع التعويضات للمتضررين يكون ربحاً للشركة، وإن كان هناك عجز فهو عليها.

في حين أن التأمين التعاوني هو تعاون على تحمل أضرار محتملة بإنشاء صندوق له ذمة مالية مستقلة، وتصرف منه الاستحقاقات من تعويضات وتصب فيه إيرادات. ويكون قسط التأمين منخفضاً نسبياً لإتاحة فرصة الاشتراك فيه لأكبر عدد من المؤمن لهم، وفي الحالات التي يكون فيها القسط أكثر من المعدل فتكون فائدة الزيادة فيه للمشتركين «المؤمن لهم» حيث يتم استثمار المتوفر من هذه الأقساط بأسلوب يعود بالربح عليهم.

ونتيجة لارتفاع الكلفة الطبية تلجأ هيئات التأمين الحكومية والأهلية على تقليص الطلب للخدمات الصحية غير الضرورية بعدة طرق منها الاقتطاع الأولي، حيث يقتطع مبلغ معين يتفق عليه في وثيقة التأمين من تكاليف أي حالة مرضية «يتحمله الفرد» وتدفع هيئة التأمين الباقي، أو المشاركة في السداد حيث يتحمل الفرد نسبة مئوية معينة من تكاليف العلاج. وهناك طرق أخرى كالسقف الأعلى الذي تتحمله هيئة التأمين عن كل حالة مرضية أو الدفعات الاسمية التي يسددها الفرد عند الاستفادة من الخدمة. وكل هذه الأساليب تستخدم لتوليد الشعور بالمسؤولية وبالمشاركة في النفقات، مما قد يقلص من حجم الطلب على الخدمات.

ومع زيادة كلفة الخدمات الصحية أصبح المرض الذي يهدد كل واحد منا لا يشكل هماً لما يحمله من معاناة جسدية بقدر ما يرافقه من أعباء مالية تنوء بحملها الأغلبية العظمى من الناس، وبدون التأمين الصحي فالخيارات المتاحة لمن ابتلي بمرض إما الصبر على المرض وعدم المعالجة أو اللجوء لبيع الممتلكات أو الاستدانة، وأحياناً اللجوء لممارسات غير أخلاقية مثل السرقة أو الرشوة أو التسول.

إن للتأمين الصحي فوائد لكافة الأطراف ابتداء بالفرد المؤمن عليه، مروراً بجهات العمل، وانتهاء بمقدمي الخدمات الصحية. فالتأمين الصحي يكفل العدل والمساواة في تلقي الخدمات الصحية للأفراد. كما يكفل الاطمئنان الاجتماعي لدى العمال والموظفين، لا سيما إذا كان شاملاً للموظف وأسرته. كما سيتمكن من الحصول على حقوقه بالمعالجة السليمة المنصفة، لأنها ستكون مرتبطه بوجود المرض أو عدمه وليس بمقدرة المرء على الإقناع واختلاق الأعذار والأمراض.

تطبيق التأمين الصحي يساعد جهات العمل على أن تؤدي التزامها نحو العاملين بشكل عادل وبعيداً عن الانتقائية ورفع الإنتاجية من خلال المحافظة على صحتهم وبالتالي رفع إنتاجيتهم والحد من الخسائر الناجمة عن الانقطاع عن العمل بحجة المرض. كما تعمل على تحقيق الرضا الوظيفي وتعزيز الارتباط لدى الموظفين والعمال بجهات عملهم لأنها تهتم بأوضاعهم الصحية والاجتماعية.

كما تؤدي أنظمة التأمين الصحي إلى رفع مستوى الخدمات الصحية وتولد التنافس بين مقدمي الخدمات الصحية، لأن هذه الأنظمة تعطي المريض الحرية في اختيار الطبيب والمستشفى الذي يريد، مما يعني أن الأفراد المؤمن عليهم سوف يتوافدون على المستشفيات ذات الخدمات الأفضل، وفي هذا تحفيز لمقدمي الخدمات الصحية أن يبقوا في الصدارة وبالتالي يتحقق التطور في القطاع الصحي.

إن زيادة إنتاجية الموارد البشرية وتنامي وتطور القطاع الصحي «الخاص والعام» يؤدي إلى زيادة معدل النمو الاقتصادي وتحقيق مكاسب وطنية وجذب الاستثمارات الصحية الكبرى وبالتالي المزيد من النمو والتنمية للوطن.

* أخصائية طب مجتمع