بدا استياء صاحب السمو الملكي رئيس الوزراء مما يحدث من فوضى إلكترونية واضحاً وملفتاً لكثير من المراقبين. سموه صرح غير مرة حول رفض الحكومة الإساءة للمواطنين والتشهير بهم على شبكات التواصل الاجتماعي بما لا يليق بقيمنا البحرينية والعروبية. وبلوغ هذه القضايا أروقة مجلس الوزراء واستحواذها على تصريح رأس السلطة التنفيذية دليل على أنها قد بلغت مبلغاً غير معهود وأن هذه الظواهر يتعين على المعنيين بها أن يضعوا حلولاً وحداً لها.

ذات مرة علقت على قضية ما في إحدى مجموعات «الواتساب» التي انضممت إليها مؤخراً، فنصحني أحد الزملاء في المجموعة أن أحتفظ برأيي لنفسي في هذا الموضوع لأن شبكات التواصل الاجتماعي قد أصبحت مليئة بالمتربصين الذين ينتظرون زلات الآخرين ليشهروا بهم. أجبته أن هذا الرأي قد أسهبت فيه، أنا وغيري، في مقال منشور، فأجابني أن الكتابة في الصحافة شيء والتعبير في شبكات التواصل الاجتماعي شيء آخر. وهو أمر صحيح فعلاً!!

من يتابع شبكات التواصل الاجتماعي سيجد أن بناها تتشكل وفق تنظيم ربما يعكس بعض البنى التنظيمية في المجتمع، ولكنها بنى ترتد سلباً على سلامة المجتمع ومتانة تماسكه. إذ أفرزت البيئة الإلكترونية مصطلحات جديدة مثل «مدون»، وأعادت تدوير مصطلحات حركية تقوقعت في دائرة النشر الإلكتروني فقط مثل «ناشط». وأغلب «النشطاء - المدونين» من الشخصيات المجهولة ثقافياً، والذين لا يمتلكون مواهب ولا مهارات ولا خلفيات معرفية تجعل من المنطقي أن يكونوا أصحاب تأثير وقدرة على توجيه أفكار المجتمع. ولكن في ظل هيمنة فلسفة «الإثارة» تحول كثير من هؤلاء إلى رموز في شبكاتهم وتمكنوا من جمع آلاف المتابعين حول حساباتهم.

وبتقصي بعض سمات أداء «الإثارة» السلبي الذي ميز حركة ما يسمى بـ «نشطاء» شبكات التواصل الاجتماعي، يمكننا التمييز بين نوعين من الأداء السلبي: الأول هو نشاط تنتهج فيه هذه الحسابات الأخذ بأطراف القضايا الهامشية في البلد والقصص العابرة في المجتمع وإعادة إخراجها وخلق حالة «إثارة» استهلاكية لها لبضعة أيام أو أسابيع لاجترار ما ينشرونه. وهذا النشاط يستثير الحس الفضولي في المجتمع فيشغل فراغ الكثيرين ويملأ المجالس بالقصص ويعمق «التفاعل الوهمي» الذي من أحد أخطر وظائفه أنه يستنزف الوقت والطاقة في «الوهم» بالإيجابية الاجتماعية، والوعي الاجتماعي، والانخراط في النشاط الإيجابي للدفاع عن قضايا الوطن وقيم المجتمع.

وعلى الرغم من مساوئ أثر النشطاء السابقين، غير أن سلبياتهم لا تخرج عن فضح سطحية الكثير من فئات المجتمع، والمساهمة في زيادة مساحة تلك السطحية بفتح المجال لمناقشة كل شاردة وواردة وإشراك أكبر قدر من الناس العاديين في الثرثرة.

غير أن الفئة الثانية من النشطاء يمثلون الأكثر خطراً، وهم الذئاب الإلكترونية. أولئك الذين زرعوا بعناية في مواقع التواصل الاجتماعي كالألغام. والوظيفة الموكلة بهؤلاء هي التربص لكل رأي مخالف، ثم إقامة «حفلة زار»، ضد صاحب الرأي. ولا تتورع تلك الذئاب البشرية عن الكذب والشتم والإساءة إلى فئات المجتمع المختلفة وكيل اتهامات السقوط وخيانة الوطن، بل وقد بلغ مستوى الإساءة إلى الاتهام في الأعراض والخوض في شرف الناس وأخلاقياتهم بما لا يمثل قيم الشعب البحريني ولا يرقى إلى السلوك الإنساني المتحضر بصلة. وفي وصف حكيم أعجبني تشبيه أحد الأصدقاء لهؤلاء بعناصر شركة «بلاك ووتر» وممارسة الوظائف الأمنية الارتزاقية نفسها، ولكن في العالم الافتراضي.

خطورة النشاط الإلكتروني المستذئب أنه يزعزع الأمن في منطقة افتراضية صارت جزءاً من مساحة البحرين، ومكاناً للتعبير عن الهوية الوطنية البحرينية. حيث يتم، بصورة ممنهجة، ضرب فئات المجتمع بعضها ببعض في كل مرة بقضية مختلفة، وحيث يتم التناوب في التشكيك، وبصورة مبرمجة، في الأفراد والجماعات. فينتهي الوضع إلى خلخلة التماسك المجتمعي وإعادة بناء العلاقات الاجتماعية على مبدأ «الشك»، وتنمية روح «التربص» بالآخر، واعتبار الإيقاع بالشريك والإضرار به عملاً وطنياً يذود عن أمن الوطن ويحميه من الخونة والمنافقين المتخفين بأقنعة متعددة. وهذه النتائج ليست سمات تواصل اجتماعي، بل مؤشرات تفكك مجتمعي تستدعي من الجهات الأمنية ومن المثقفين الحقيقيين «وليس النشطاء الفارغين» التصدي لها كي لا تتعمق الشروخ الاجتماعية أكثر في مجتمع صغير لا يحتمل كل ما يحصل فيه. قلق صاحب السمو الملكي رئيس الوزراء في محله، وتصريحاته لها مسوغاتها. فالأمن الإلكتروني اليوم لم يعد أقل أهمية من الأمن المجتمعي والسياسي والاقتصادي، إن لم يكن اليوم، وفي هذه الظروف.. الأكثر خطراً.