كنت أنوي عمل حلقة تلفزيونية عنوانها «من قص الصورة؟» وتدور حول الأضرار التي تلي اجتزاء الأخبار واجتزاء التصريحات وابتسارها من سياقها وأصلها ومن كماليتها.

وكنت قد اخترت مثالاً قريباً يبين كيف اجتزأت وسائل الإعلام كالصحافة والتلفزيون جزءاً من الصورة، وكذلك كيف ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في ابتسار واجتزاء وقص الصورة الكاملة ونقل الجزء لا الكل، وكيف تناقلت الناس الجزء على أنه هو الكل دون أن تعلم.

المثال هو للمناقشات التي جرت حول مواضيع هامة تمس حياة الناس وأمنهم وصحتهم، وتمس العديد من هواجسنا وخوفنا من الأمراض ومن العلاج والحماية لنا، وجزء من عملية التفاكر في كيفية محاسبة الدولة على تقصيرها في تأمين تلك الحقوق المعيشية الهامة المتعلقة بصحتنا؟

كانت السلطة التشريعية تناقش «قانون النظافة العامة» وهذا قانون به العديد من البنود تزيد عن المائة بند، تتناول ضوابط للمحلات التجارية التي تقدم الأطعمة، ضوابط عرضها وبيعها وطبخها، وتلك مسائل هامة ونحن نشكو من أمراض معدية ومزمنة ومستعصية ولها علاقة بهذه الضوابط.

كان القانون مثلما يناقش نظافة تلك المحلات يناقش كذلك نظافة الشوارع ويتناول الشروط والمواصفات المطلوبة لها، ويتناول العقوبات ودرجاتها التي تطال مخالفي تلك الضوابط والاشتراطات.

كان القانون يناقش العديد من أوجه النظافة العامة في البلاد وأثرها على صحتنا وسلامة أبداننا، وكان جزء صغير جداً من أحد البنود يتناول موضوع الأضرار التي تطالنا من بقاء المستنقعات والمياه التي تتجمع سواء بالأمطار أو فيضان مياه الصرف أو حتى المياه التي تتجمع من المكيفات أو غسل السيارات في الشوارع، كان هذا النقاش جزءاً من نقاش عام، فلم تكن هناك إذاً جلسة معقودة لمناقشة المياه التي تتسرب من المكيفات كما فهم الناس، بل ما تداوله الناس كان جزءاً صغيراً من صورة أكبر، فمن قص الصورة؟

الصورة الأكبر كانت تستعرض قوانين الدول الأخرى إثراء للنقاش، حيث تضع دول عديدة عقوبات وضوابط لأية مياه مهدورة في الشارع وتتناول قوانينها ضوابط تفرض على ملاك المباني والمحلات تصريف مياه المكيفات عبر أنابيب الصرف الصحي وعقوبات لمن يخالف تلك الضوابط والاشتراطات، فمن قص الصورة؟

كذلك مثال لقانون آخر فهمه الناس خطأ نتيجة اجتزاء جزء يسير من المناقشات والجدال التي كانت تدور حوله، قانون يتكون من مئات البنود والمواد ويضع ضوابط لتسجيل حالات الميلاد والوفيات، وهذا قانون لحفظ الحقوق ولدقة الإحصائيات ولمنع الجرائم وبه مواد عديدة هامة، فلم تعقد حلقة خاصة «بحراسة المقابر» كما فهم الناس الذين تداولوا مقطعاً صغيراً من نقاش طويل وظنوا أن الشورية يناقش حراسة الأموات!!

ومن هنا كانت ستبدأ حكاية الحلقة التلفزيونية التي كنت أنوي عملها، بسؤال من قص الصورة؟ وكيف؟ ولماذا؟ من أوصل الصورة للناس مبتسرة مجتزأة تظهر قوانيننا وكأنها قوانين تافهة بعيدة عما يمس حياتنا وحقوقنا ومصالحنا؟ «لست معنية بالدفاع عن أي من المجلسين» أسأل فقط هل القوانين والتشريعات التي تمس هذه المناحي الحياتية إن كانت تافهة أم هي من صميم معيشتنا؟

الاجتزاء لم يَنَل النواب وأعضاء الشورى الاجتزاء طال القوانين ذاتها التي من المفروض أن نكون نحن أيضاً شركاء في صياغتها لو رأينا الصورة كاملة على حقيقتها، فتلك قوانين تمس صحتنا وإحصائياتنا وتعدادنا وأمننا الجنائي.

التشريعات والقوانين أداة خطيرة دونها ندفع أثماناً عديدة نتيجة الفوضى والفراغات التشريعية، ولذا فإن الفهم الواعي لأهمية تلك القوانين سيدفعنا إلى المشاركة في صنعها وصياغتها حين نرى الصورة كاملة على حقيقتها، إنما مع الأسف هناك من قص الصورة، وهناك من لا يعرف كيف يدافع عن الصورة، ونحن مع الأسف أخذنا ذلك الجزء المبتسر الذي أظهر القانون المعروض للنقاش على أنه قانون تافه وكبّرناه واعتبرناه هو الصورة!

نعم نحن من خلال وسائلنا المتاحة بأيدينا بأجهزتنا الهاتفية قمنا بقص الصورة المقصوصة أصلاً بعناوين صحافية اهتمت بالجزء وتركت الكل، وأخذنا نحن العنوان الأبرز في الصحافة، العنوان الأكثر إثارة وحملناه في هواتفنا وتفننا في تحويله لمادة نضحك عليها.

الفكرة في هذا الموضوع أننا جمعينا نخسر كثيراً من ضياع فرصة المناقشة الغنية والثرية، نخسر كثيراً نتيجة انشغالنا بقصص صغيرة وتافهة من الحروب الشخصية ومن فوضى وسائل التواصل الاجتماعي وحروبها القذرة، نخسر كثيراً من الانشغال بتحطيم الناس بدلاً من الانشغال بما يهم الناس، الفكرة أن هؤلاء الصغار يرون أنفسهم أكبر من البحرين فلا يهمهم أن يفهم الناس أو يشارك الناس أو حتى يقدر الناس مزايا هذا المشروع الإصلاحي الذي جعلنا شركاء في وضع قوانيننا فيشغلوننا بتوافه حروبهم.

ختاماً قد يسألني أحدكم ولم لم أنفذ فكرة الحلقة التلفزيونية؟ الإجابة لأننا وصلنا إلى مرحلة «العطسة» فيها ممكن أن تُؤوَّل إلى غير مآلها!! ولا أريد أن أشغلكم بعطسة «لا راحت ولا جت»!!!

عودة إلى عنوان المقال من الخاسر؟