المعروف أن للبنان خاصيتين رئيسيتين، الأولى، نظامه السياسي الطائفي القائم على التوزيع الطائفي والمذهبي للرئاسات الثلاث والمقاعد النيابية وعدد الوزراء وعدد موظفي الدرجة الأولى. والثانية ، أن العمل السياسي قائم أساسا على الخدمات والمنافع، على سبيل المثال لا بد لمن يريد أن يدخل البرلمان أن يكون ضمن تحالف انتخابي قوي يقدم الخدمات للمواطنين على تنوعها.



وقد جاء القانون الانتخابي الجديد ليرسخ ويعمق الطائفية أكثر، من خلال الإبقاء على التوزيع الطائفي للمقاعد، ومن خلال تقسيم الدوائر الانتخابية بشكل يراعي همينة الأحزاب الطائفية، لذلك انعدمت فرص أي مرشحين على المستوى الفردي، إذ ينبغي لأي طامح إلى النيابة أن ينضم إلى لائحة كانت غير مكتملة، ما يعني أن الأحزاب الطائفية هي التي ستتحكم بتشكيل اللوائح، وستكون اللوائح الرابحة هي التي تقدم الخدمات هي الأقوى، وهذا يعني بطريقة غير مباشرة أن هذه الأحزاب تشتري الولاء وأصوات الناخبين .

هذه دارسة تحليلية لعمق الواقع اللبناني، ولا تهدف بطبيعة الحال للترويج أو التخويف أو التضخيم، لأن مسؤوليتنا كبيرة اتجاهكم، ونقدم الواقع بكل أمانة علمية، بالإضافة إلى رأينا وتحليلنا كجزء مسؤول ومعني مباشر بالملف الشيعي العربي عامة واللبناني خاصة.

حزب الله يتصدر الانتخابات بالمال الإيراني

إن الأحزاب اللبنانية الكبيرة والمتوسطة تعتمد على الخدمات لكسب الجمهور ، منها من يدفع من ماله الخاص الآتي من التمويل الخارجي أو الذاتي، ومنها من يستغل مرافق الدولة ومؤسساتها، للتوظيف ولتقديم التسهيلات، أو ليجعل منها مصدرا للإعاشة لكثيرين عبر الرشاوى والمخالفات القانونية .



ما يمكن التأكيد عليه أن حزب الله هو الأقوى في مجال الخدمات، ولا يمكن مقارنة الأحزاب الأخرى به ولو من بعيد، لأنه أقام دويلة داخل الدولة اللبنانية، تقدم جميع أنواع الخدمات المادية لعناصره وأنصاره والجمهور الشيعي الواسع ، وبالنسبة لحركة "أمل" أي نبيه بري، يعتمد على موارد الدولة اللبنانية ويستغلها إلى أبعد الحدود ، إلا أنه لا يمتلك جزءًا يسيرا مما يقدمه حزب الله بفعل التمويل السخي لإيران.

وقد نجح الحزب في تشكيل منظومة أمان اجتماعي لبيئته لا يملكها أي حزب آخر في لبنان وهي سلسلة من المؤسسات التي تقدم الخدمات، ومنها "مؤسسة القرض الحسن" وهي تمنح القروض الميسرة للمحتاجين من دون فوائد (ربا ) مقابل ضمانات بسيطة، تكون غالبا منتمية إلى حزب الله أو إلى بيئته، ويستفيد من هذه القروض عشرات آلاف الأشخاص سنويا .

ومنها "الوحدة الطبية" التي تمتلك سلسلة مراكز طبية للطوارئ والعلاج في مختلف المناطق الشيعية، وتقدم الخدمات شبه المجانية للمواطنين، واذا تطلبت حالة المريض الدخول إلى مستشفى بكلفة باهظة تساعده هذه الوحدة.

وكذلك "جمعية الإمداد" التي تكفل الأرامل والأيتام والمحتاجين من خلال جمع التبرعات وتحويلها إلى من يحتاجها، ولكن معظم تمويلها من المال الإيراني .

و"مؤسسة الشهيد" وتصرف الرواتب الشهرية وكل تكاليف المعيشة لعائلات قتلى حزب الله وعددهم يصل إلى حوالى عشرة آلاف عائلة .

و"مؤسسة الجرحى" وتعنى برعاية ومعالجة الجرحى وعائلاتهم، ويقدر عدد المستفيدين منها بعشرات آلاف العائلات.

إضافة إلى "التعبئة الرياضية" ومهمتها تشكيل الفرق في مختلف الرياضات لضم الشباب والناشئة إليها وتأطيرهم في أطر حزبية غير مباشرة، وقد حققت هذه الوحدة نجاحات كبيرة. وإلى "التعبئة التربوية" وتركز جهودها على الطلاب في المدارس والجامعات فتقدم لهم التسهيلات لتحمل تكاليف الدراسة الباهظة في لبنان، كما تؤمن المنح التعليمية في الخارج، خصوصا في إيران. وإلى "كشافة المهدي" وهي مؤسسة شبه عسكرية تضم الشبان والشابات الذين يقومون بنشاطات اجتماعية وهم آلاف من المتفرغين الذين يقبضون رواتب شهرية.

إلى جانب "وحدة النقابات والعمال" التي تتابع نزاعات العمال والموظفين مع أصحاب العمل، وتؤمن لهم المتابعة والحماية القانونية، وتنظمهم في تحركات مطلبية ومعيشية. وإلى جمعيات ومنتديات ثقافية-فنية: وهي مختلفة وتنوعة وتشمل كافة المجالات والميادين ، فكرية ، وموسيقية ، وترفيهية .. وتضم في صفوفها الآلاف. والحوزة الدينية وينتسب إليها المئات سنويا لدراسة الدين والمذهب الشيعي، ويرسل الدارسون لاحقا إلى إيران للاتحاق بالحوزات هناك ، ولا يخفى مدى التأثير الذي يمارس عليهم ليكونوا دعاة مخلصين للولي الفقيه.

ورش التأهيل

يعمد حزب الله من خلال المؤسسات والجمعيات المذكورة أعلاه إلى تنظيم ورش تأهيل كل المنتسبين إليها ولكل عائلاتهم، صغارا وكبارا ، ويتولى مسؤولو الدعاية في الحزب ، الترويج لثقافة وسياسة الحزب .

الترغيب والتهديد

يتسلط حزب الله على القاعدة الشيعية بوسائل عدة أهمها استخدام التهديد الديني إذا أصدر تكليفا شرعيا ما، بمناسبة الانتخابات مثلا، فيجبر الناخبين من بيئتة على الاقتراع للائحة التي يختارها، ويروج دعاة حزب الله لفكرة أن مخالفة التكليف الشرعي حرام .



أما سلاح التهديد الأمني فيستخدم ضد من يخالف الرأس فيتهم بالعمالة والخيانة، ويجري اعتقال المئات سنويا تحت هذه الذريعة الزائفة، وغالبا ما يتم إطلاق سراح المعتقل بعد توقيعه تعهدا بعدم العمل ضد حزب الله .

سلاح التهديد الاجتماعي من خدمات وتوظيف، فيقطع التمويل عن كل من يخالف تعليمات الحزب، في الانتخابات وغيرها، حى لو كان المخالف من المقربين، ومن عائلات الشهداء أو الجرحى، كما يتم تسهيل الخدمات والحصول على وظائف وتقديم المكافآت لمن يقدم جهدا في ضم المناصرين إلى بيئة الحزب.

رأينا :



إن الساحة الشيعية تخلو من أي مشروع مضاد لحزب الله يضاهي قوته ، فهناك من يعارض ولكنه لا يملك قدرات الحزب، و لا يملك دعما مماثلا للدعم الإيراني، ويفتقد المعارضون الوطنيون من الشيعة لأي دعم بمستوى دعم إيران، لذلك تجدهم كالأصوات المعزولة في البرية، وأي تقارب مع الناس الذين اعتادوا على الخدمات ويعتاشون منها، محكوم عليه بالفشل إذا لم تتوفر الإمكانيات المالية.

لقد نجحت إيران عبر حزب الله، وعبر مؤسساتها التي تعمل في لبنان، في تأسيس منظومة اجتماعية كاملة ناشطة وفاعلة لدى الجمهور الشيعي ( وأحيانا غير الشيعي) ، الهدف منها السيطرة على قاعدة شعبية متنوعة وشمولية مرتبطة بقراره السياسي -الديني تستغل وتستخدم عند الحاجة وأهمها الانتخابات النيابية أو البلدية أو النقابية أو الطلابية، لإنجاح الحزب في هذه المعارك لأنه يضمن تجيير أصوات هذه المنظومة الاجتماعية.

لقد بدأت إيران بعد ثورة الخميني مباشرة نشاطها في لبنان بتأسيس حزب عقائدي مسلح، ولكنها عبر السنوات وبإنفاقها مليارات الدولارات حولته إلى منظومة متكاملة من المؤسسات الشبيهة بمؤسسات الدولة، حيث يمكن وصفها بأنها دويلة ضمن الدولة.

إن هذا النموذج نجح وحقق لها الهمينة على الطائفة الشيعية ، لذلك استنسخته في العراق، عبر ميليشيات الحشد الشعبي التي تتحول اليوم إلى فصائل سياسية تمتلك منظومات اجتماعية مشابهة لمنظومة حزب الله ، وكذلك في مملكة البحرين عبر جمعية الوفاق.

د.السيد محمد علي الحسيني



أمين عام المجلس الإسلامي العربي