بعد ان تطرقنا في المقالات الثلاثة السابقة لفلسفات ما عرف بأيديولوجيا الإرهاب وعرضنا للمحاولات السابقة لتجديد الخطاب الديني والتي لم يكن لها الحظ في التأثير الكامل أن الأوان إلى التطرق لإجابة السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن بحكم المنطق ألا وهو كيف لنا أن نضمن هذه المرة آلية أكثر نضجاً وغير قابلة للخفوت مثل سابقيها من المحاولات؟! إلا أنه يجب الإقرار بأن تلك القضية محاط بها العديد من الأمور الجدلية والتساؤلات التي من الضروري الإجابة عليها حتي يمكننا تكوين رؤية أكثر وضوحاً حول مشروع التجديد ولعل السؤال الأول هو لمن نجدد الخطاب هل للتعامل مع هؤلاء أصحاب التفكير الأحادي والذهنية المقفلة أم مع عامة الناس أم مع الشباب؟ ولماذا نقوم بالتجديد هل فقط لكي ندفع بنزيف الإرهاب إلى لحظة النهاية أم حتى نجعل الدين أكثر ارتباطاً بالواقع وتأثيراً فيه أم لكي نستعيد للدين دوره الأصلي الحقيقي في دعم الأمم وتطورها؟ وماذا نطور هل نطور الفكر أم الأسلوب أم آلية توصيل الأفكار والمعاني؟ وما هي المدة الزمنية لعملية التطوير هذه؟

أعتقد بداية أنه من الأهمية بمكان الإقرار والتأكيد على أن آلية تجديد الخطاب الديني يجب أن تكون آلية ديناميكية فلا يمكن لأي فكر أو خطاب ثابت جامد مهما بلغ من التطور.. أن يتعامل مع واقع ديناميكي متغير إلا إذا اكتسب هو «الخطاب» صفة الديناميكية ذلك لأن الواقع يتجدد نتيجة ظروف وأحداث ومقومات الحياة اليومية وزاد من وتيرة حراكه ديمومية التواصل عابر القارات ومختلط الثقافات الذي يتم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي لذا فهناك ضرورة لاعتماد آلية تسمح بتجديد الفكر والخطاب الديني بشكل مستمر لتتوافق مع طبيعة الواقع المعايش.

وإن كانت فكرة الديناميكية هي حجر الأساس الأول الذي يمكن أن ننطلق منه إلى خطاب ديني يستطيع البقاء والانتشار.. فان الاستراتيجية المتكاملة.. تكون نقطة الانطلاق الثانية.. استراتيجية يتلاحم فيها الثقافي بالديني مع التعليمي والاتصالي لإنتاج خطاب ذا مقبولية ولديه القدرة على التأثير والفاعلية. أما النقطة الثالثة فتكون الأساس المعرفي وقاعدة بيانات متكاملة تبنى عليها تلك الاستراتيجية.. فليس من المنطقي أن يكون هناك تجديد أو تطور بدون وجهة، وهذا ما تسمح به الدراسات العلمية والمعرفية والتي تعد بمثابة بوصلة التجديد الفعال ولكي تتسم هذه البوصلة بدقة التوجيه من الضروري في حالاتنا هنا أن تشتمل على ثلاث اتجاهات رئيسة، الاتجاه الأول الخاص بالجانب الفكري والعقائدي والذي يعني إعادة تحليل النص الديني وفقا للمنهجيات الحديثة في تحليل النص وعلاقته بالمعنى وإنشاء مرصد لتحديد أي الأفكار والادعاءات التي يوظفها الفكر الإرهابي للتأثير على الشباب حتى يمكن دراستها والرد عليها لتوفير المناعة الفكرية وصياغة برامج للأمن الفكري تتناسب مع واقعنا من خلال التحليل الثقافي لظواهر التطرف ونقد الانحرافات الفكرية العقائدية لتشتمل عليها وبوعي منظومة التجديد.. أما الاتجاه الثاني خاص بتوفير قواعد بيانات عن كل فئات الجماهير المستهدفة من الخطاب الديني وعن الشباب تحديداً باعتبارها الفئة الأجدر بالاستهداف من قبل تلك الجماعات المتزمتة فرصد القضايا محل اهتمام الشباب ورسم الملامح الدقيقة لرؤيتهم للعالم، وأنماط تفكيرهم وفهم ما تواجهه هذه الجماهير من مشكلات حياتية باختلاف فئاتهم العمرية علاوة على رصد القضايا الوطنية محل الاهتمام هي حجر الأساس الذي يمكن من خلاله رسم أجندة لأولويات القضايا التي تطرح في الخطاب الديني المستهدف وفقاً لطبيعة المرحلة وذلك بالتعاون مع الجهات الأمنية والسياسية والثقافية، أما الاتجاه الثالث فمرتبط بالرصد العلمي الدقيق للأنماط المتغيرة للثقافة الاتصالية للجماهير خاصة الشباب، واستخدامهم الواسع المدى لوسائل التواصل الاجتماعي الجديدة، والتي أصبحت شبكات فاعلة لنشر الأفكار صحيحة كانت أم زائفة، وكذلك للترويج للقيم الاجتماعية أوالدينية.

وبالعودة إلى سؤال لماذا نقوم بالتجديد أعتقد أن مقتضيات المنطق تشير إلى أن السبب الأهم والذي يستوعب في طياته باقي الأسباب هو أن نعزز الدور الأصلي للدين في دعم الأمم ولأنه لن يتم ذلك إلا إذا تم ربط الدين بالواقع واستطاع الإسهام في حل معضلاته الحياتية وهو ما يمكن أن يوقف بدوره أيضاً إمكانية ضخ دماء شابه جديدة في مستنقع الإرهاب ذلك لأن الدين يملك في داخله قوة التجديد والتطوير معاً أما الإرهاب فهو فكر لا يؤمن بمبادئ الإنسانية وما تشتمل عليه من مفاهيم الحب والرحمة والخير والجمال ولكن من أين نبدأ عملية التجديد كي يمكن أن يكون للدين ذلك الدور؟ للحديث بقية.

* أستاذ الإعلام الرقمي المساعد