طرحنا في المقالات السابقة الفلسفات التي أسس عليها الفكر الإرهابي والمحاولات التاريخية لتجديد الخطاب الديني والظروف التي استدعت إعادة طرح فكرة التجديد والمبادئ التي تسهم في تهيئة المجال للتأسيس لفكر وخطاب ديني جديد.

لكن وإن كانت تبدو كلمة التجديد كلمة مبهجة بسيطة إلا أن استحضارها وتطبيقها في الواقع كمن ينتهي من اعتلاء قمة جبل فيجد أن عليه تسلق الكثير من الجبال الأخرى، فعندما نفكر بتجديد الخطاب هل يكفي أن نجدد الجانب الفكري والعقائدي؟ أم أن طبيعة الخطاب وما يثيره من قضايا يجب أن تكون هي الأخرى داخل ماكينة التجديد؟ وهل هناك ضرورة لإعادة النظر في آليات توصيل هذا الخطاب للجماهير؟ بل إن أخطر ما يمكن أن ندقق فيه هل كان للخطاب الديني طوال العقود الماضية ناتج مخطط له في أذهان الدعاة وسعوا للوصول له على أرض الواقع أم كانت الخطابات سردية وبالتالي ضاعت كسراب لا يمكن أن يروي ظمأ المتعطش في الصحراء؟ وطالما أن الإجابة اليقينية أنه كان كذلك هل علينا أن نؤسس ضمن منظومة التجديد لفكرة أن يكون لكل خطاب ديني ناتج ملموس، وأن يرتبط هذا الناتج بطبيعة ظروف المجتمع والفئة الموجه لها الخطاب؟ أعتقد أن الإجابة المنطقية على تلك الأسئلة السابقة هي حتمية أن يتم التجديد بالتوازي في كل تلك المسارات. فالمسار الأول والخاص بتجديد الفكر القائم عليه الخطاب الديني والذي يعد الآلية المثلى لتذويب الجمود الفكري للجماعات الإرهابية من خلال تصحيح المفاهيم المغلوطة التي تتبناها والقائمة علي القياس الخاطئ أو التأويل المنحرف للآيات القرآنية للترويج للفكر التكفيري، ولعل الطريق الذي علينا أن نمشي بين جنباته هنا هو وضع رؤية موحدة موثوقة عبر احتشاد علماء الدين في كل الدول الإسلامية لجمع كل المغالطات وإعادة تصحيحها والرد عليها مع الاستشهاد بأدلة إقناعية من القرآن والسنة وتفنيد الشبهات بطريقة علمية صحيحة بل وإعادة تفسير الآيات القرآنية دون الدوران في دائرة التجزئة حيث أن اجتزاء النص الديني عن سياقه وعن النصوص التي تتحدث في القضايا ذات العلاقة هو بيت الداء الذي لو تم علاجه يمكن رسم رؤية أكثر اعتدالاً تسهم في تأسيس مفهوم قبول الآخر، والتركيز على المقاصد العليا في الإسلام كالبناء والتطوير والحياة الإنسانية الرحيمة والأخلاق والقدرة على تحقيق الأهداف بفاعلية ورفض التشدد والانغلاق فهذه هي القواعد الأساسية التي انطلق بها الإسلام الذي لن يشاد أحد فيه إلا غلبه للعالم.

أما المسار الثاني، والمرتبط بطبيعة الخطاب ونوعية القضايا المثارة فيه فهو عصب الحوار وجوهره والذي يجعله مادة موضع اهتمام إلا أنه في الواقع يعد مساراً متشعباً نتيجة لكون الخطاب كمفهوم عام يطوي داخله ثلاثة أبعاد الأول خاص بطبيعة اللغة التي يستخدمها ومفرداتها وألفاظها وهنا يكون منشأ التجديد مرتبط بمعالجة ضعف الأسلوب والتحول من الأحاديث اللوغارتمية والكلمات المقعرة إلى الأساليب السلسة والمفردات العصرية والبعد الثاني مرتبط بالتصورات والرؤى التي يشتمل عليها هذا الخطاب وهنا يرتبط التجديد بكون تلك الرؤى أكثر ارتباطاً بالواقع وقادرة علي سد الفجوة بين مفهومنا للدين وبين الواقع الحياتي المعيش وأن يعكس أولويات الوطن ويكون أكثر انفتاحاً على العالم وتركيزاً على مقاصد الشريعة والتي تشمل إقامة نفس إنسانية ناضجة قادرة علي بناء مجتمع موحد يستطيع النمو ومرتكزاً على أساس علمي دون تجاهل للجوانب الإنسانية علاوة على كونه خطاباً يتسم بالمرونة دون تضييق على الناس حتى لا يتحول إلى خطاب ديني مغترب. والبعد الأخير هو قدرة الخطاب على التأثير في الواقع من خلال وضع أهداف عملية يمكن تطبيقها بشكل تدريجي من أجل تطوير الواقع.

أما المسار الثالث، يجبرني قبل الخوض فيه استدعاء مقولة لبول آردن تقول «عندما تجد نفسك في مأزق غير القلم الذي ترسم به فتغيير الأداة هو مخرج للكثير من المشكلات» وهو بالضبط ما علينا القيام به هنا حيث إن إعادة تأهيل الدعاة من خلال دعم العقلية النقدية التحليلية والقادرة على التخطيط لأهداف واضحه من خطابها ووضع آليات واقعية لتحقيق هذه الأهداف بل وقادرة على التعاون مع المؤسسات المجتمعية والثقافية لتحويل الخطابات الدينية إلى مواد ثقافية جاذبة لكافه شرائح المجتمع ولرسم استراتيجية للتأسيس لنشر الثقافة الدينية الوسطية في المجتمع هو ما يعد أحد الروافد المثلي للتخلص من مشكلة انخفاض الفاعلية للخطاب الديني التقليدي.

وللوصول لتلك الغاية فعلى الدعاة إدراك ضرورة أن يمر الخطاب الديني بعدد من التحولات كالتحول من خطاب الاستمالات الترهيبية كالخوف وترك الدنيا والاستعداد للآخرة إلى خطاب الفاعلية والدأب والتطوير، والتحول من نوعية التواصل الخطابي إلى التواصل الحواري واستنباط الحقائق من الحوار كبديل عن التلقين والفوقية الاتصالية أحادية الاتجاه وتحويل الخطاب الديني إلى مواد سمعية بصرية ورسوم متحركة واستخدام عبارات قصيرة خاطفه فيها مفاد الرسالة المستهدفة وأسلوب مرح خفيف مفعم بالجاذبية واعتماد كلمات متفائلة ونقد خطاب تكريس الفكر العدائي الذي تتبناه الجماعات الإرهابية والتحول نحو تكريس الفكر البنائي والقائم على أن جهاد العصر هو البناء والتطوير باعتبار أن هذا التحول في مفهوم الجهاد هو ما يسهم في إبدال مشاعر الخوف والكراهية الغربية لك ما هو مسلم بمشاعر الاحترام والإعجاب كما إنه يعد آلية لتطوير مجتمعاتنا وحل مشكلاتنا المعاصرة وتحرر مجتمعاتنا الإسلامية مما يمكن أن يمارس عليها من ضغوط اقتصاديه أو سياسية أو حتى عسكرية وتدخلات تزعج سيادتنا بحجة الإرهاب.. لعل هذا يكون طريق البداية.