يذكر الشاعر الشعبي والصحافي المعروف الملا عبود الكرخي أنه في يوم من أيام سنة 1940 ذهب لقضاء عمل في ديوان وزارة الداخلية في المملكة العراقية آنذاك، وهناك شاهد أحد كبار المتنفذين وهو يتحدث إلى مستشار الوزارة الإنجليزي وكان الحوار يدور عن الحرب الدائرة في فلسطين فسأله المتنفذ متى تنتهي هذه الحرب؟ على اعتبار أن الإنجليز هم من ساند الصهيونية العالمية بوعد بلفور المشؤوم وأمدوا العصابات الصهيونية بالمساعدات المادية والدعم السياسي وخذلوا العرب، فأجابه المستشار الإنجليزي ساخراً: «اسألوا حسون أبو الجبن». وحسون أبو الجبن كان معروفاً في بغداد بكثرة التظاهر من أجل قضية فلسطين ويتصدر المظاهرات بالهتافات الحماسية، معنى كلام المستشار الإنجليزي أن الشعارات والمظاهرات لا تغير واقعاً وهي وسيلة للتنفيس ليس أكثر، ومع أن إجابته كانت خبيثة لكن كلامه صحيح وينطبق اليوم على الوضع العراقي، فالغربيون نقلوا للعراق وغيره ثقافة التظاهر الموجودة عندهم وبالمقابل زرعوا لهم نظاماً لا يأبه للمظاهرات ولا للمقالات وما تنشره المحطات الفضائية عن فساده ويعتبره فرصة للتنفيس عن الشعب أما إذا زادت المظاهرات أو الاعتصامات عن حدها وإن كانت سلمية، فتقمعها بدون أي تفكير بعواقبها حتى لو تسيل أنهار من الدم، كما فعل نوري المالكي رئيس الوزراء السابق في مجزرة الحويجة عندما هاجم المعتصمين سلمياً في ساحتها، لأن في الحقيقة قمعها ليس له أي عواقب على الحكومة أو النظام، فالمظاهرات والاعتصامات والصحف ومقالاتها التي يمكنها الإطاحة بالحكومات في الغرب ليس لها أي تأثير واقعي في ذلك البلد، ولن يكون ذلك ممكناً إلا بحالتين، الأولى تبقى سلمية لكن يشارك فيها كل أفراد الشعب فتتوقف الحياة وبهذا تتحول إلى ثورة وعندها تكون أمام احتمالين، الأول يتعامل النظام معها كما تعامل نظام بشار الأسد ومن ورائه إيران وهذا أقرب الاحتمالات لأن إيران موجودة هناك من الأساس، والاحتمال الثاني، يتعامل النظام معها كما تعامل زين العابدين بن علي رئيس تونس الأسبق، وهذا احتمال ضعيف، أما إذا لجأ الناس لأي عمل عنيف مسلح ضد الدولة فذاك الوقت سيرون دبابات الحكومة على الأرض وطائرات أمريكا في السماء، ولذلك أفضل طريق لتغيير الأوضاع في العراق -خصوصاً وأن عامة العراقيين اليوم يتطلعون لذلك- هو اللعب مع النظام السياسي بنفس اللعبة التي فرضتها أمريكا عندما زرعت هذا النظام، فأمريكا تعتبر الدمار الذي أحدثه «العملية السياسية الحالية»، هو أفضل إنجاز ولا بد من المحافظة عليه، فلعبة الانتخابات التي من خلالها ثبتت كل العصابات التي أدخلتها للعراق يمكن هي نفسها تقتلعهم لكن هذا يحتاج إلى وقفة واعية من الشعب نفسه.. وتبقى المقالات واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي مجرد وسيلة للتوعية أما إن تعامل معها الشعب على أنها مقطوعات «يقروها» حتى تنفس عنهم فلا يتوقعوا أن يتغير شيء.