كانت مرحلة صعبة تلك التي عاشها الفنان بيكاسو في فقر مدقع بباريس.. لم يكن متوفراً لديه سوى علب من اللون الأزرق، وقيل إنها كانت الأرخص ثمناً ما أتاح له شراءها في استغناء اضطراري عن بقية الألوان، لكن بيكاسو لم يتقاعس عن فنه رغم ذلك الفقر، فأتحفنا بأجمل لوحاته التي عبر عنها المؤرخون فيما بعد بالمرحلة الزرقاء. هكذا عاشت دول الخليج العربي بعد اكتشاف النفط ترفاً، بينما كانت تحظى بكثير من الإمكانيات والموروثات القابلة للاستثمار والفرص، ولكنها آثرت الركون إلى الطريق السهلة وفقاً لنموذج المرحلة الزرقاء واختارت النفط كلون رئيس إن لم يكن لوناً أوحداً لرسم لوحة الدولة وملامح نهضتها، في استغناء ترفي عن بقية الموارد.

اليوم وفي ظل التحديات والتهديدات التي تواجهها دول الخليج حيال النفط واحتمالات نضوبه فضلاً عن انخفاض أسعاره في السوق الدولية، بات الاهتمام الخليجي جلياً بالتنمية البشرية والاستثمار في الإنسان، ويبدو لي أن الإمارات أبرز من نجح في المجال وسوّق له، ولحقتها على عجالة وبتميز لافت المملكة العربية السعودية، أما عمان فقد عملت في هذا السياق ولكن كعادتها بصمت، غير أنك في بعض المناظرات الفكرية والبرامج الخليجية المشتركة تكتشف حجم ما وصل إليه العمانيون من ارتقاء وقفزات نوعية في تنميتهم البشرية. وربما لا يمكننا وضع الكويت في نفس ميزان المقارنة لكونها قد عملت في هذا السياق في وقت مبكّر وربما بشكل غير مباشر ومقصود كبقية الدول، وإنما جاء ضمن ما حظيت به من أجواء ثقافية وارتفاع لسقف الحريات وما تبعهما من تنمية للرأي والفكر تحديداً.

وقد آتت جهود كل تلك البلدان أكلها، ومازالت البحرين تبذل قصارى جهدها في المجال، وتعمل على اللحاق بالركب الخليجي من خلال تنمية كوادرها، ليس لأن كوادرها لا تتمتع بالمهارات اللازمة أو الإمكانيات، وإنما لكونها مازالت قيد التحصل على بعض الفرص من هنا وهناك، الأمر الذي شكّل التفاتة جديرة بالإشادة من جلالة الملك المفدى الذي عدّ الكوادر البشرية الوطنية ثروة البحرين الحقيقية، ما يؤكد على أننا خليجياً عدنا للمرحلة الزرقاء في حالة مماثلة لتجربة بيكاسو، ليغدو العنصر البشري بمثابة اللون الأزرق الذي يكفل تميز اللوحة رغم توحده عن بقية الألوان الأخرى. ربما كل ما نحتاج إليه في البحرين، القليل من الالتفات من المشرع القانوني والكثير من العناية والاهتمام المفقودين من صاحب القرار الإداري.

* اختلاج النبض:

اعتمدت البحرين لفترة على مدخولها من النفط، وعملت منذ سبعينات القرن الماضي على أن تكون مركزاً مالياً واقتصادياً مهماً إقليمياً ودولياً، ولكن ذلك كله لا يعادل حجم ما يمكنها تحقيقه من خلال تفوق عنصرها البشري الذي يمكنه أن يكون الرافد الأقوى ليس للاقتصاد وحسب وإنما للنهضة الشاملة في المملكة.