من منا لا يتمنى أن يعيش في مجتمع راقٍ؟ فعندما نتحدث عن رقي المجتمع، فنحن نتحدث عن رقي أفراده، وعندما نتحدث عن المجتمعات الراقية يتبادر إلى ذهننا المجتمعات المتقدمة في عصرنا الحاضر، ولكن مهلاً عزيزي القارئ، مارأيك في مجتمع يعاقب القاضي المخطئ فيه بإهانته أو التشهير به، ويعتبر هذه العقوبة عقوبة شديدة مقابل جرم ارتكبه، كأن ينزع عمامة الرجل المخالف ويلقي بها أرضاً أمام الناس فالعمامة تشكل رمزاً للوقار واحترام الرجال فيشعر بالألم والحسرة والإحراج الشديد بل ويعتبرها عقوبة شديدة على نفسه لخسارته لاحترام الناس، وما رأيك في مجتمع يعاقب فيه القاضي الجاني بأن يجلسه على الدابة ووجهه لمؤخرتها ويسير به بين الناس فتكون العقوبة هي التشهير والإهانة، فيعتبر هذه العقوبة مصيبة وعار حل عليه وعلى أهله، فهذا الرجل في ذاك المجتمع يعتبر كرامته وسمعته هي أغلى وأثمن ما يملك وأن يعاقب بإهانته أو مس سمعته يعتبرها عقوبة أكبر من عقوبة الغرامة أو حتى حبس الحرية.

ففي تلك المجتمعات الراقية تعتبر العقوبة بالإهانة هو قرار يتخذه القاضي ولا يجوز لسواه فعل ذلك فميزان العدالة بيد القضاة فقط، وميزان الحكم على أفعال الناس وإدانتهم بيد من له حق الحفاظ على العدالة فقط. ياله من مجتمع راقٍ، ياله من مجتمع يحترم كيان الإنسان وكرامته، ولا يجوز لأي شخص مسه فهذا بالنسبة لهم خطا أحمر لا يمكن لأحد أن يتجاوزه، ويحمي حدود هذا الخط الأحمر أخلاقيات وقيم ومبادئ التزم بها الناس وأصبحت لها قوة وسلطة أكبر من قوة القانون وعززت بقوة العرف، إنه مجتمع أجدادنا، هكذا عاش أجدادنا كرامة الرجل وسمعته واحترامه أغلى ما عنده، هذا هو مجتمع أجدادك عزيزي القارئ.

أما اليوم فتصفح الرسائل بوسائل التواصل الاجتماعي، لتجد كم عدد الذين نصبوا أنفسهم قضاه فيوجهون التهم للناس ويحكمون على أفعالهم، وينفذون الحكم عليهم قبل أن يصدر في حقهم حكم العدالة، هم يعاقبونهم قبل أن تثبت عليهم الجريمة بأبشع العقوبات وهي التشهير والإهانة، والأدهى والأمر هناك من يقرأ تلك الرسائل ويقوم بتمريرها إلى الأخرين معتبراً ذلك أمراً عادياً فقد اعتاد أن يمرر كل ما يصل له من رسائل من باب المشاركة فقط لا غير!! هو لا يدرك أنه يسهم في الإضرار بشخص ما، لقد غاب عن ذهنه أن الإهانة والتشهير ومس السمعة عقوبة تهزم الإنسان من داخله، وتخلخل الثقة بين الناس، فلا يثق الناس بالمتهم ولا بالمدعي فيختلط الحق بالباطل والغث بالسمين، ويغيب الحق عن عيون الناس، ما أعجب أمرنا عندما ينصب كل منا قاضٍ على الآخرين فنصدر الحكم بإدانة الآخرين ونحكم عليهم بالإهانة والتشهير وننفذ الحكم بأنفسنا، وننسى أن قانون الغاب الذي يحكم عالم الإعلام الاجتماعي يعطي الحق للجميع لأن يفعل بنا الشيء نفسه، فعندما تتبدل الأدوار ونكون نحن الضحية فحينها سيتغير موقفنا وسنرى الأمر من منظور آخر.

لا تظن عزيزي القارئ أن الحل في وضع قوانين تضبط وتردع من يسلط سيف لسانه أو قلمه أو كلماته في الإعلام الاجتماعي على الناس ويتعدى على سمعتهم وربما أعراضهم، فالقوانين لا تغني عن التزام أفراد المجتمع بالأخلاق والمبادئ والقيم، ولعمري إن الضوابط الأخلاقية التي تشكل عرفاً في المجتمعات لا تقل أهمية عن الضوابط القانونية، فالأولى أن نفكر كيف ننشئ الأجيال على الحفاظ على القيم والمبادئ والأخلاق ومن هنا تبرز أهمية دور المؤسسات الاجتماعية بأنواعها لتعزيز هذه المبادئ لدى الناس ونشر المبادئ والقيم والأخلاق بين أفراد المجتمع.

فدعونا نرتقي، فدعونا نستفيد من إرث أجدادنا فلا نجرؤ على نشر شيء إلا بحكم يصدره القاضي، دعونا نرتقي بسلوكنا فلا نتعدى على سمعة الآخرين ولا نستعجل تنفيذ الحكم عليهم. علينا أن نترك الحكم للقاضي، ولا نتعجل الأحكام، حيث يصبح المتهم مذنباً قبل أن تثبت إدانته، ويذوق مر العقاب من الناس في حين أن القضاء قد يبرئه. أبناء قومي لا تنسوا الرحمة بينكم فالمجتمعات قد ترحم المذنب وتعطيه مجال للتوبة وعدم العودة لارتكاب الذنب فما بالنا نقسو على بعضنا البعض، في حين لم تثبت إدانة المذنب، ما بالنا نقسو على بعضنا البعض ونسل كلماتنا الجارحة في وجه بعضنا البعض، فجرح اللسان أبلغ من جرح السيف، لنتراحم ولنرفق ببعضنا، فإدراك الناس بتبعات الكلمة وأبعادها دليل رقي المجتمع. ورسالة أخيرة لبني قومي إن معيار رقي المجتمعات ليس في مدى التزام الناس بالقوانين فقط بل بمدى التزامهم بالأخلاق والقيم. إن معيار الرقي في احترامهم لأعراف مجتمعاتهم وضوابطها!!!! ودمتم أبناء قومي متحابين، ودمتم أبناء حزمة متماسكة يشد بعضها البعض.