طبيعتي ومبادئي وقيمي يلزمونني التفكير بطريقة معينة وقد تكون هذه الطريقة غير ملائمة للبعض لكنها توافق طريقة تفكير الكثيرين. من مبادئي أن العطاء واجب وليس مصدراً للرزق، ويجب علينا محاسبة النفس قبل استلام الراتب.

لقد تربيت على أيادٍ تربوية فاضلة تهتم بالإتقان والإخلاص والتفاني والعطاء، وهذا من أهم ما نقلته معي في حقيبة الزمن، وهو أمر بات مهيمناً على منهجية تفكيري. فها أنا أمضيت جزءاً من عمري كممرضة تهمني راحة المريض، ساعية بكل تفانٍ إلى تقديم الرعاية دون أن أهتم بالتعب النفسي أو الجسدي الواقع علي. وبعدها انتقلت لأصبح مدرسة يشغلني تعلم الطالب، وأسعى إلى إعداد ممرضي المستقبل ليكونوا قادرين على العطاء بلا حدود وبشكل يفوقني بكثير. والآن أصبحت مسؤولة في مؤسسة تعليم عالٍ تهمني جودة مخرجاتها، ساعية بمثابرة إلى التأكد من السير على الخطى التي تضمن للمؤسسة تحقيق رسالتها وأهدافها.

إن معايير الإنجاز كانت واضحة لي في المراحل الأولى من مسيرتي الوظيفية، أما في الوظيفة الأخيرة فهي الأصعب.

كممرضة، كانت استجابة المريض للعلاج وشفاؤه هو معيار الإنجاز، وكمدرسة، نجاح الطالب وتميزه هو معيار للإنجاز أيضاً. لكن ما الإنجاز لمسؤولة معنية بجودة المخرجات التعليمية؟ إنها معضلة حقيقية بالنسبة لي.

وكما أسلفت أن «النفس» لا ترحم، والخوف من إضاعة الطريق هو ما يدفعني إلى التفكير المستمر، وقبل كل شيء يأتي الخوف من الله على حفظ الأمانة وأدائها بالشكل الذي يرضيه سبحانه.

السؤال الطاغي في نفسي حالياً هو: «هل نحن قائمون بما هو علينا القيام به؟ وهل ما نقوم به هو بالفعل ما يجب علينا القيام به؟ هل نراعي معايير أداء الأمانة بالشكل الصحيح؟».

كشفت بهذه الخواطر لإحدى المقربات فأجابت: «تسيرين في هذه الحياة وتكتشفين وتتعلمين، وما سيأتي لك من يكشف ويوضح لك أثناء مسيرتك.. هذه هي الحياة، وطريق الحق واضح لا لبس فيه ولا غبار»، وبالفعل هذا ما اكتشفته.

مؤخراً دعيت كمتحدثة في منتدى أقامته هيئة جودة التعليم والتدريب تحت عنوان «الإطار الوطني للمؤهلات: هل نحن على مقربة من تلبية احتياجات سوق العمل؟»، وأتت الدعوة بناء على دوري الذي أقوم به في بوليتكنك البحرين، وهو التأكد من توفير وتقديم برامج تلبي احتياجات سوق العمل. وقامت الهيئة مشكورة بتناول هذا الموضوع الهام والذي يعنى بدور مؤسسات التعليم العالي في سد فجوة قد تكبر إن لم ينتبه لها كل المعنيين بقطاع التعليم. وعند انطلاق الحوار وجهت لي المعنية بإدارة الجلسة سؤالها الأول، وكان السؤال جوهرياً ويحاكي الأسئلة التي بت أطرحها على نفسي دائماً: «ما هو مفهومك للدور الذي تقوم به مؤسستكم في تنمية المهارات الوظيفية المطلوبة من قبل سوق العمل ودعم متطلباته؟».

إن إجابتي ارتبطت بشكل وثيق برسالة المؤسسة وبكل ما قامت به البوليتكنك منذ تأسيسها، وبإطار وضعناه وأسميناه «إطار المهارات الوظيفية لبوليتكنك البحرين»، وهو معني بما تقدمه البوليتكنك ويضمن تخريج أجيال مؤهلة لخوض الحياة العملية بفاعلية. وبعد الانتقال إلى السؤال الثاني استرجعت إجابتي للحظات لكي أجد نفسي حائره. هل كانت إجابتي لمجرد الإجابة وتوفير المعلومات التي لا يمكن أن يختلف عليها اثنان عند الاستماع لها؟ أم أجبت وأنا على يقين تام أن ما نقوم به في البوليتكنك هو ما يجب أن نفعله كي نضمن مخرجاتنا، ويحقق رؤية البحرين 2030؟

وباسترجاع ما أخبرتني به المقربة لي بدأ الجواب يتجسد أمامي، ففي فترة تلقي الأسئلة والملاحظات من الحضور وقفت فتاة في مقتبل العمر بثقة لكي تقول: «أقف أمامكم كمثال يجسد خريجي البوليتكنك. فقد تعلمت في بوليتكنك البحرين وتخرجت سنة 2014 وأجزم بأن إعدادي وتهيئتي نفذا بالطريقة الصحيحة. فها أنا أعمل مع أقراني في بيئة العمل وأجد نفسي قادرة على توظيف المهارات الوظيفية التوظيف الصحيح، لذلك أشكر بوليتكنك البحرين، وطاقمها الأكاديمي، وكل من ساعدني في فترة دراستي لتحضري لما هو مطلوب مني في عالم العمل».

إن إجابة الفتاة أدهشتني وأسعدتني بشكل خيالي، حيث أتت لتقطع الشك باليقين وتضع حداً لتساؤلاتي. ومنها بت على يقين أن الطريق الذي نمضي فيه حالياً هو الطريق الصحيح حتى نصل إلى نهايته بتحقيق أهدافنا وفقاً لخطتنا الاستراتيجية، وسنستمر إلى أن نصل لمفترق طرق حيث ستبدأ مجموعة جديدة من الأسئلة تطرح نفسها.

وختاماً عزيزي القارئ، لا أعتقد أبداً أن هذه الخاطرة تعنيني أنا وحدي، ولا حتى المنتسبين لقطاع التعليم وحده، بل أعتقد أنها تعني كل المعنيين بإعداد أجيالنا القادمة والمسؤولين عن رسم مستقبل هذا البلد العزيز.

* باحثة ومديرة التطوير الأكاديمي - بوليتكنك البحرين