كل عام، نشهد موقفاً شبه جامع بين عديد من دول العالم ضد التقرير السنوي الذي تصدره الخارجية الأمريكية بشأن أوضاع حقوق الإنسان.

هذا التقرير باختصار شديد، تستلم فيه وزارة الخارجية الأمريكية «أغلب دول العالم»، وتوجه لكل واحدة سيلاً من الانتقادات بشأن حقوق الإنسان، وفيه لا تمنح «صك البراءة» لأي دولة إطلاقاً، بل بحسب هذا التقرير، الخلاصة واحدة ومفادها بأن «كل دول العالم تنتهك حقوق الإنسان إلا الولايات المتحدة»!

لو سلمنا بأن هذا التقرير عادل وحيادي -وهو أصلاً خلاف ذلك، كونه أحد الأدوات التي تستخدمها واشنطن لتبرر محاولات تدخلها في شؤون الدول- أين بالتالي التقرير المعني بحالة حقوق الإنسان في الولايات المتحدة الأمريكية؟!

كل دول العالم بلا استثناء تعرض لها التقرير بالانتقاد، وكثير مما يذكره لا يستند لمعلومات موثقة، وليس مرتكزاً على مواقف الدول المعنية من الحالات المبينة، بل الغريب أن بعض المعلومات تستند لتصريحات وادعاءات لشخصيات تصنفهم دولهم في خانة المجرمين أو الخارجين على القانون.

وكالعادة يستهدف التقرير البحرين، بانياً معلوماته على نفس التقارير التي ترسلها السفارة في المنامة، هذه التقارير التي كشف في السابق عن عدم حياديتها، وعن انتقائيتها في وصف الداخل البحريني، والتي مسحت تماماً أي ذكر لوجود تطورات ديمقراطية في بلادنا، ولم تتطرق للمؤسسات الحقوقية وتلك المعنية بحماية حقوق الإنسان وكأنها لا توجد. وهنا نذكر بأحد التقارير المسربة من داخل وزارة الخارجية الأمريكية نفسها قبل سنوات، ويتحدث عن نشاط السفير الأمريكي السابق في المنامة، وكيف أنه لم يقم بمهامه تجاه تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي، وركز على تعزيز علاقاته مع شخصيات وجمعيات راديكالية لها دورها فيما شهدته البحرين في 2011، وعناصرها مطلوبة ومتهمة بسبب تخطيطها للانقلاب على الحكم ودعم الإرهاب والعنف.

كل نقطة ذكرها التقرير تملك البحرين رداً عليها بالأدلة والشواهد، لكن الغريب في هذا التقرير تغافله عن الأدوار الإرهابية التي قامت بها عناصر وجمعيات صورها التقرير في خانة المظلومين، بينما هم بحكم التصنيف الأمريكي -لو طبقنا معايير محاربة الإرهاب عليهم، أي لو كان لهم نظراء في أمريكا وقاموا بنفس ما قاموا بهم- فإنهم لن يجدوا لهم مكاناً إلا في معتقل غوانتنامو.

الاتهامات طالت عديداً من الدول الخليجية والعربية، منتقصة من كافة التطورات الديمقراطية والحقوقية، بل واعتبرت حفاظ دولنا على العادات والأعراف الأخلاقية «انتهاكاً لحقوق الإنسان»، مثل قولها بأن دولنا «تنتهك الحرية الجنسية» مطالبة بأن تكون هناك «حماية» لحقوق الشواذ والمتشبهين بالجنس الآخر!

التقرير ينتقد إيقاف أشخاص ومواقف «حرضوا علانية على العنف»، ونستغرب هذا الانتقاد، إذ هل يريدنا من صاغ التقرير أن نقول للإرهابيين: «تفضلوا حرضوا على العنف وادعوا للإرهاب ومارسوه دون أن يقول لكم أحد لا»؟! الولايات المتحدة نفسها لديها «سجل حافل» و«قوائم طويلة» لأناس بعضهم أبرياء لكن اعتقلوا لمجرد «الاشتباه» بكونهم إرهابيون.

أبشع الجرائم المنتهكة لحقوق الإنسان كانت القنابل الذرية الملقاة على اليابان، وقبلها عملية إبادة الهنود الحمر السكان الأصليين في أمريكا، وفوقها جرائم حروب فيتنام وأفغانستان والعراق، وسجون غوانتانامو وأبوغريب، وأيضاً قمع الحركات والتظاهرات السلمية مثل حركة «وول ستريت» وغيرها، وانتهاك حقوق السود من قبل حتى أفراد في الشرطة الأمريكية في سلوكيات عنصرية، دون نسيان خصوصية الأفراد والدول عبر عمليات الرصد والتنصت، ولربما تذكرون حادثة التنصت الشهيرة على المستشارة الألمانية أنجيلا ميريكل وغيرها من زعماء، ومشروع «بريزم» الذي بموجبه تتنصت الولايات المتحدة على كل الاتصالات داخلياً وخارجياً.

المفارقة أن التقرير الأمريكي ينتقد دولاً وقعت على معاهدات دولية تحمي الحريات وحقوق الإنسان، الولايات المتحدة نفسها لم توقع على هذه المعاهدات، مثل معاهدة العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومعاهدة القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة، ومعاهدة المعوقين وبيان حقوق الطفل، وغيرها من معاهدات يفترض أن من يدافع عن حقوق الإنسان أول الموقعين عليها.

المقام يطول هنا، لكن خلاصة القول إن هذا التقرير أصبح مكشوفاً تماماً للجميع، ولا يعدو عن كونه وسيلة ضغط وابتزاز، رغم أنه يستخدم للأسف مع دول تعتبر الولايات المتحدة دولة حليفة وصديقة وتتعامل معها بكل شفافية ونزاهة.

يمكن أن يحترم هذا التقرير في حالة واحدة فقط، لو تضمن رصداً وافياً وشاملاً لانتهاكات حقوق الإنسان وقمع الحريات بداخل الولايات المتحدة نفسها، أقلها سيكون محسوباً كحياد وشفافية من منطلق «تقويم الذات»، بدل أن يكون بهذا الشكل، وكأن الخارجية الأمريكية هي «قاضي العدالة» بشأن حقوق الإنسان، والذي يصدر حكمه السنوي على الجميع، ويخلص على أنهم جميعهم -أي الدول- إرهابيون إلا هو وحده!