عندما اتجهت النظم السياسية الحديثة إلى تقوية الحريات العامة وتكريس مبادئها من خلال دساتيرها وتشريعاتها وممارساتها، فإنما كان ذلك بهدف الارتقاء بشعوبها والانضمام إلى ركب النظم الديمقراطية المتطورة.

ومن أبرز تلك الحريات التي غالباً ما يثار الجدل حولها، حرية الرأي والتعبير، التي يقترن الحديث عنها دائماً برصد مستوى التحول الديمقراطي في أي بلد، ومدى التطور في منظومة الحقوق والحريات فيه.

وبسبب التطور التكنولوجي السريع، ظهرت أشكال ووسائط وقوالب مختلفة للتعبير عن الرأي آخرها وأحدثها ما يُعرف بوسائل الإعلام الاجتماعي التي جعلت عدداً غير محدود من الناس يتصدرون المشهد الإعلامي، على الرغم من أن عدداً لا بأس به من هؤلاء من غير المؤهلين للاضطلاع بهذا الدور.

ومكمن الخطر هنا يكمن في كون هذه الوسائل فضاءً مفتوحاً ومنبراً عاماً يخاطب أعداداً شتى من الجماهير المتفاوتة من حيث السن والجنس والمستوى الاجتماعي والثقافي والتعليمي، مما يزيد من حساسية الرسائل الإعلامية الموجهة لجمهور مفتوح عبر فضاء يحاول متصدروه -غالباً- إسباغ صفة الحرية المطلقة عليه، وهو أمر غير واقعي وغير صحيح البتة.

فالحق في التعبير عن الرأي هو حق دستوري مكفول للناس كافة وليس حكراً على فئة دون أخرى، وقد ناضلت البشرية منذ عصور طويلة خلت من أجل تكريس هذا الحق الذي حاز على اهتمام المواثيق والاتفاقيات الدولية فضلاً عن حرص الدساتير والقوانين الوطنية على النص عليه لما يشكله من حق طبيعي مقدس لصيق بالذات البشرية.

إلا أنها ورغم اعترافها الكامل بمبدأ حرية الرأي، فقد وضعت تلك التشريعات قيوداً تنظم ممارسته، انطلاقاً من مبدأ المساواة الذي يقر بحقوق واحدة لكل أفراد المجتمع، والذي يفرض بألا تكون حرية المرء خرقاً لحرية غيره أو وسيلة لتهديد سلامته.

كما يجب ألا تتجاوز حرية الرأي حدودها أو تتعدى غايتها المتمثلة في تحقيق الصالح العام، ولهذا فهي غير مطلقة ولا يجوز أن تستخدم لهدم أسس ودعائم النظام العام للدولة، ولا يجوز أن تُمارس بقصد الإساءة إلى حقوق الآخرين أو المساس بأعراضهم وشرفهم وإفشاء أسرارهم أو نشر الفاحش من القول والبذيء من الكلام بينهم.

وتنص المادة الأولى من قانون تنظيم الصحافة والطباعة والنشر البحريني الصادر بالمرسوم بقانون رقم «47» لسنة ‏2002‏‏ على أن: «لكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غيرهما وفقاً للشروط والأوضاع المبينة في هذا القانون، وذلك كله دون المساس بأسس العقيدة الإسلامية ووحدة الشعب، وبما لا يثير الفرقة أو الطائفية».

معنى ذلك أن حرية الرأي قد تكون بالقول أو الكتابة أو بوسائل النشر والإعلام المختلفة من صحافة وإذاعة وتلفزيون ومسرح وسينما وإنترنت وغيرها. إلا أن قانون العقوبات البحريني قد فصّل المواضيع التي لا يجوز لأحد المساس بها، بالقول أو بالكتابة، أو بالنشر أو بأية وسائل أخرى، وهي تلك التي يمكن أن تشكل تهديداً للأمن والنظام العام في البلاد، أو تجريحاً بكرامة الدولة ومسؤوليها، أو انتقاصاً من كرامة الأفراد وسلامتهم وحرياتهم، أو تعدياً على حقوق الآخرين.

وعلى خلاف بعض الدول الأخرى كفرنسا مثلاً، فإن بعض الدول -ومن بينها البحرين- تميل إلى تصنيف مواطنيها في نطاق ممارسة حرية الرأي والتعبير، وتميز بين المواطنين العاديين، وبين الموظفين الذين يمنع عليهم ممارسة حرياتهم مباشرة في هذا المجال بدون إذن كتابي مسبق من المسؤول الإداري المختص.

ويمنع قانون الخدمة المدنية على الموظف الاشتغال بالأمور السياسية، أو كتابة المقالات، أو الإدلاء بتصريحات بدون إذن خطي من رئيسه، كما يمنع عليه الإضراب عن العمل أو التحريض عليه مهما كانت الدوافع والأسباب.

خلاصة القول: إن المطالبة بسقف أعلى لحرية الرأي والتعبير سيظل دائماً ديدن الإعلاميين الوطنيين، لاتساق ذلك المطلب مع المشروع الإصلاحي لحضرة صاحب الجلالة الملك المفدى، ولا يعني ذلك الحرية المبتذلة التي تقود إلى زعزعة المجتمع وسلمه وأمنه وأمانه، بل الحرية المسؤولة التي تبني ولا تهدم. الحرية التي تعزز أركان دولة المؤسسات والقانون وتشيد عمرانها على أساس من المبادئ الإنسانية الحقة.

والسؤال الجدير بالطرح في هذا المقام: هل باتت وسائل الإعلام الاجتماعي بحاجة إلى سنّ تشريع ينظمها، حتى لا تنقلب إلى سكين توجه إلى رقبة الدولة متى ما وقعت في يد من لا يقدر قيمة المعلومة ومسؤولية الكلمة؟

* سانحة:

«الكلمة، الكلمة عمل عظيم»، «فيودور دوستويفسكي».