ما الذي برأيكم سهل «تجنيد» الآلاف من شباب القرى من الطائفة الشيعية الكريمة في البحرين أو في أي دول عربية أخرى وغرر بهم لحمل السلاح ضد أوطانهم؟ أليس هو ذاته الذي غرر بشباب سني في دول أخرى للانضمام لجماعات مسلحة وتوجيه سلاحهم لأوطانهم؟

هل تبرؤون صراع الهويات كونه أحد أهم العوامل التي سهلت التغرير بهم؟ صراع بين مفاهيم ومعتقدات وقيم شكلت هويتيهما الوطنية والدينية ونازعت بينهما، وتركت مجالاً للمفاضلة بينهما وفقاً للغرس والتربية والمحيط، فتعلو تارة هذه المفاهيم على تلك أو العكس؟ وكلها مفاهيم استهانت واستخفت بالدولة وبالوطن.

إن كان الجواب نفياً فسيظل الاجترار سيد الموقف والخاسر إلى جانب الوطن هم الجماعة التي ينتمي لها هذا الفكر الذي جعل الاستخفاف والاستهانة بالدولة وبالوطن.

وما تلك (الفزعة) التي انتفضت في الأيام الأخيرة، إلا ضمن ذات السياق وقادها ذات الأشخاص الذين (يتمتعون) بملكة الإنكار التلقائية جميعهم جعل من حرق الوطن وتوجيه السلاح للدولة مجرد (معارضة، أو جهال، أو مسألة حقوق، ووووو) هم ذاتهم من قدم ألف عذر ومبرر عدا النظر إلى الداخل وجرأة مراجعة الذات، كل الدنيا مسؤولة عن كوارثنا إلا نحن.

في النهاية الأمر عائد لنا وحدنا في الاستمرار في ذات السياق وتحمل موجة ثالثة ورابعة من الكوارث إلى ما لا نهاية، أو وضع حد لها، فالله سبحانه وتعالى منحنا العقل كي نختار لا لكي ننساق.

الأمر عائد لنا لنصفق لمن (استخف دمه) وظن أنه ربح المليون وظن أنه إنما يحسن صنعاً لنا وهو ينفي وينكر وجود «إشكالية» في المفاهيم والقيم الوطنية التي تغرس في نفوس أطفالنا إشكالية في الموروث تتعارض وبشدة مع استحقاقات الدولة، وتحدث عنها الكثيرون ممن تجرؤوا على كسر الطوق والإقرار بوجودها في لحظات من الصفاء، ولا أريد أن أذكر أسماءهم من جديد خوفاً عليهم من تكرار إقصائهم ومحاربتهم في كل مرة.

الأمر لن يعود لهؤلاء الشجعان في كل مرة لفتح المغاليق، فكلنا مكلف بالتفكير والتدبر ولكل منا طائره في عنقه، فلا تعتقد أنك في كل مرة ستعود سالماً إن اعتدت أن تضعها برأس عالم وتنهي مسؤوليتك هناك.

لعقود والغالبية العظمى من الجماعة تنساق وراء من أنكر وجود هذه النزاعات الفكرية التي على شكل أهزوجة تارة ومرويات وإسقاطات تاريخية تخلط المراحل، تأتي بألف شكل من الإغراس تنتزع الإنسان من ترتبته وتتركه معلقاً بالفضاء التاريخي أو الجغرافي، تارة إلى هذا المكان وتارة إلى ذلك الزمان، لعقود وأسباب الدنيا كلها وراء الكوارث التي تحيق بأبنائنا عدا عن النظر إلى الداخل والبحث عن الأسباب فيها.

محاولة التذاكي بأن ذلك الخطاب بريء وله مثيله في مذاهب وديانات أخرى لا يمكن أن تقفز وتتجاوز النتيجة، فوجود الآلاف من الشباب في المنافي والسجون من الذين يرددون ذلك الخطاب (البريء) عبرة وبها نستعين في الفهم، وها نحن نرى كيف انتفضت دول كالمملكة العربية السعودية انتصاراً للدولة التي تم الاستخفاف بها في خطاب مشابه هناك.

المقاربة بين الأهازيج لا يجب أن تجمع وتماثل بين تلك الأهزوجة التي أثارت الجدل وبين أهازيج مماثلة تمتدح مدناً أخرى كطيبة وكمكة، لا لأن تلك المدن أفضل من السابقة التي ورد ذكرها في تلك الأهزوجة، إنما لأن من يمتدح مكاناً آخر في تلك الأهازيج لا يقدح بالوطن فيها.

محاولة التذاكي لا تجدي نفعاً إن أنت أخرجت تلك الأهزوجة من الآلاف المرويات والموروثات الخطابية التي تباعد بين الإنسان ودولته وتشكل ذاكرتك واستخدامها.

لك أن تستخف دمك قدر ما تستطيع إنما انظر لمن هم خلف القضبان لمن خسر مستقبله ولمن تحطمت عائلته ولمن وجد نفسه تائهاً بعد أن أحرق ذلك الوطن داخله قبل أن يحرق إطاراته وحاوياته ويقتل رجال أمنه فما عاد يميز هويته، ضاع وطنه في عقله متى ما تم الاستخفاف به وبقدره ومكانته والاستخفاف بأثر الخطاب فجميع هؤلاء هم نتاج ذلك الاستخفاف وذلك الإنكار.

وأختم..

بأن الدولة تساعدك في الفرز وفي الاختيار بتشريعاتها التي تمنع من غرر بشبابكم من الدخول للسلطة التشريعية من جديد وتعاقب من يهين رمزية الدولة ويستخف بها، إنما الباقي عليكم أنتم ولكم الخيار في التصفيق لمن يقودكم للجولة الفاشلة الثالثة أو لمن يفتح لكم باب الوطن ويعرض عليكم أرضية مشتركة نقف عليها جميعاً.

* ملاحظة أخيرة:

وطن بلا دولة قطعة أرض متنازع عليها.