في الأيام القليلة الماضية تابعت بعض المشكلات التي طفت على السطح لبعض الكيانات الثقافية العربية. وكان واضحاً أن المشكلات الفردية للمثقف تتكثف وتتفاعل ويعاد تشكلها في صيغة تنظيمية جماعية عبر الكيانات المختلفة. وهنا يتعين علينا أن نؤكد على أهمية وجود الكيانات الثقافية «الجماعية» في العمل على بلورة موقف ثقافي شعبي، وفي بث حيوية ثقافية في المجتمع تتميز بتواصل مجتمعي سلس غير متكلف، وتتمتع بحرية تعبير أكبر من التي تتمتع بها الكيانات الثقافية المرتبطة بالمؤسسات الرسمية.

دارت أغلب المشكلات التي تم طرحها ومناقشتها في الفضاء العام لوسائل التواصل الاجتماعي حول محورين: المحور الأول هو تعطيل بعض الكيانات الثقافية لانطلاقة العمل الثقافي عبر بعض الإجراءات الإدارية، مثل تجميد لجان العضوية لسنوات عديدة مما أدى إلى توقف إمداد الكيانات الثقافية بالأجيال الجديدة الشابة من المبدعين. الأمر الذي فتح باب النقاش، في بعض الكيانات الثقافية العربية، عن استحواذ الصفوف القديمة على قيادة تلك الكيانات، واستمرار الأداء التقليدي في تنفيذ الأنشطة الثقافية. كما وجه النقد لأداء القيادات القديمة من المبدعين في كونها شخصيات معروفة في الساحة الثقافية ودائمة الانشغال بإنتاجها الإبداعي وحضور الفعاليات والمؤتمرات الداخلية والخارجية. مما تسبب في بعض الأحيان في توقف الأنشطة الثقافية الداخلية.

بعض الانتقادات والتحفظات على ممارسات قيادات الكيانات الثقافية تطرقت إلى العلاقات «النفعية» بين بعضهم والمؤسسات الرسمية الثقافية، بما لا يخدم العمل الثقافي المجتمعي أو الأهلي وبما لا يحفظ استقلاليته، وبما يزج به في بعض الصراعات السياسية التي يتعين على الثقافة أن تكون مشروع إصلاح لها لا أداة من أدوات إدارة الصراعات.

المحور الثاني الذي لفت حوله الكثير من النقاشات الثقافية هو دور الكيانات الثقافية الأهلية في دعم المثقف الحقيقي. إذ يبدو أن ظاهرة المثقفين المزيفين آخذة في التفشي في عالمنا العربي على نحو غريب. حيث عبر الكثير من المثقفين عن تحفظاتهم على تبني تلك الكيانات وجوها لا يعرف لها إنتاج ثقافي أو إبداعي والترويج لها وتصديرها إلى واجهة المشهد الثقافي. في حين يتم إهمال المبدعين الحقيقيين، بل ويتم إهمال المبدعين الكبار في البلد مما أدى إلى تقديم بعض من صفوة المثقفين استقالاتهم من تلك الكيانات الثقافية، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى فقدان تلك الكيانات الثقافية مصداقيتها وحياديتها وتمثيلها الشعبي للمثقفين. وقد عدد بعض المبدعين في بعض الكيانات الثقافية الأهلية أسماء مبدعة لامعة حاصلة على عضوية في بعض الكيانات الثقافية منذ أكثر من عقدين من الزمن، ومع هذا لم يطلب منها تقديم محاضرة أو المشاركة في جلسة حوارية أو ترشيحها لحضور مؤتمر خارجي. في الوقت الذي تحصر تلك النشاطات على فئات قليلة يتكرر حضورها في مختلف الفعاليات. وأكثر التعقيبات قسوة في هذا الجانب هو بلوغ المثقف اعترافا عربيا وعالميا وحصوله على جوائز تقديرية مختلفة، وتجاهل الكيانات الثقافية الأهلية في بلده لنجاحاته ونشاطاته الخارجية.

ماذا يريد المثقف والمبدع العربي من الكيانات الثقافية الأهلية؟ وهل بالفعل وجود تلك الكيانات بصيغتها الجماعية الأهلية مهم ونافع للحركة الثقافية؟ أغلب المبدعين العرب الكبار لا ينتمون إلى تلك الكيانات. والبعض لم ينتمِ لها مطلقاً. في تقديري إنها كيانات تنظيمية مهمة، خصوصا في ظل العجز والتقصير الرسمي الواضح، وفي ظل ارتباط العمل الثقافي الرسمي بالسياسات العامة للدولة التي لا شك في أن لها حدودها وتحفظاتها. لذلك فإن المبدع العربي يريد كيانا ثقافيا يمثله ولا يتسلق على كتفه لتحقيق مصالح مع المؤسسات الرسمية. ويريد كياناً ثقافياً وطنياً ومستقلاً، وليس كياناً مستقطباً بين الصراعات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تنتهي ببعض الأعضاء إلى المناصب الرسمية العليا. ويريد كيانا يدعمه ماديا في إبراز إنتاجه الإبداعي وتسويقه، ومعنوياً يساهم في تقويم تجربته الإبداعية وإنضاجها وإبرازها والتعريف بها محلياً وعربياً.

مشكلة العمل الإبداعي والثقافي في الغالب أنه لا يؤكل عيش، وأغلب المبدعين يطبعون أعمالهم الإبداعية من شعر وسرد ونقد على نفقاتهم الخاصة، وقليلاً ما يحصلون على مردود مجزٍ من تلك الأعمال، مما يجعل الثقافة أحياناً مغرماً وليست مغنماً. فما بالك بها وهي الساحة الواسعة للتعبير عن الصراعات السياسية والثقافية والاجتماعية. الأمر إذا... بلغ مبلغاً صار بحاجة معه إلى الإصلاح.