* متقاعدون طمحوا إلى زيادة رواتبهم التقاعدية لموجة الغلاء.. فعادوا بخفي حنين!

* المزايا التقاعدية للمواطن ليست مكرمة أو هبة بل أموال المواطنين وحق من حقوقهم

* بعد خدمة 30 سنة وظيفية تقول لي: "ما فيه مكافأة نهاية الخدمة"؟

* إيقاف حصول أعضاء "الشورى والنواب" والبلديين على أكثر من "تقاعد" الميزة الوحيدة بالقانون

* القانون الجديد لم يحدد رفع سن التقاعد بل قد يرفعه لعمر الدخول إلى القبور!

لا بد أن الكثيرين مر عليهم هذا البرودكاست الطريف عن أساليب قائمة المطاعم الفخمة «صفار البيض الساحر مع قطع الطماطم الحمراء الطرية اللامعة بالقرنفل الفاخر المقطوفة يدوياً مع بصل الجمنولا مضافاً إليها رشة من الملح النقي المستخرج من المنجنيق مخفوقة بأعواد الفلفل الاستوائي» وبعد كل هذا الكلام المنمق والمضلل يكون الطبق عبارة عن شكشوكة أي بيض وطماطم!!

تلك الخدع النفسية التي تمارس في لوائح الطعام لدى المطاعم الفاخرة جداً تكون عادة مصممة بطريقة استراتيجية من قبل أناس مختصين بإعداد لوائح الطعام لضمان التأثير على الزبون وغالباً ما ترافقها منهجية التلاعب بالأسعار، حيث يهتمون بأن تكون الأسعار غير واضحة قدر الإمكان أمام تغيير المعنى واستخدام لغة متقنة رغم أن الطبق في النهاية نفسه واحد مع اختلاف الوصف وتعابير الكلام حيث نجده لدى المطاعم الشعبية والعادية «شكشوكة أو بيض وطماطم»!!

لا ندري لم استحضرنا هذه المنهجية أمام الموجة الشعبية العارمة تجاه التعديلات المقترحة التي ستطال قانون التقاعد الجديد المقدم بصفة الاستعجال إلى مجلسي النواب والشورى، فلو عدنا إلى « بالونات الاختبار» التي أطلقت قبل أكثر من سنة ماضية سنجد أن هناك الكثير من بالونات الاختبار التي كانت تطلق بين فترة وأخرى عن رفع سن التقاعد وإلغاء التقاعد المبكر وإلغاء مكافأة نهاية الخدمة وزيادة نسبة اشتراكات التقاعد، أي نسف معظم المزايا التي يحصل عليها المتقاعد أو يمني بها نفسه الموظف في نهاية فترة خدمته، وبنفس الوقت وحتى لا ننسى إيقاف تطلعاته في أي تغيير يطال أوضاع المتقاعدين الذين كثرت مطالبهم خلال السنوات الماضية بزيادة رواتب المتقاعدين أمام غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار عالمياً.

ويبدو أن الرفض الشعبي الكبير وحملات الاستنفار التي جاءت من قبل المواطنين، دفعت القائمين على المشروع إلى «اللف والدوران» حول مدى صراحة هذا القانون الجديد بحيث لا يذكر بمنتهى الصراحة الخطط التي يقوم عليها قانون التقاعد الجديد إنما فتح الباب لمجلس إدارة الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي والمجلس الأعلى للتقاعد العسكري بتوسيع الصلاحيات مع عدم العودة إلى مجلس الشعب النواب ومجلس الشورى أي السلطة التشريعية، مما يعني أنه بإمكان هيئة التأمين الاجتماعي والمجلس الأعلى للتقاعد العسكري الشروع في طرح ما يرونه مناسباً فيما يخص المزايا التقاعدية واشتراكات التقاعد وتحديد السن القانوني للتقاعد وإلغاء مكافأة نهاية الخدمة، أي مثلما نقول بالعامية «ما مات إلا انطزت عينه!» ورجعنا بخفي حنين، فالنتيجة واحدة بالأصل وإن اختلفت طريقة طرح القانون الجديد أو تفاصيل محتواه أمام السلطة التشريعية!

قانون التقاعد الجديد وكأنه اقتطع صلاحيات السلطة التشريعية وجعلها بيد مجلس إدارة الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي والمجلس الأعلى للتقاعد العسكري، والأمر أخطر مما يتصوره عامة الناس، فمعنى هذا أن بيده أيضاً تقرير منح زيادة سنوية على الراتب أو وقفها كما جاء بالقانون، وهو أيضاً «لف ودوران» حول ما أثير مسبقاً من إيقاف العلاوة الدورية السنوية للموظفين!!

كما أن القانون الجديد لم يتطرق بصريح العبارة إلى رفع سن التقاعد من 60 إلى 65 عاماً، إنما ترك الباب «مشرعاً « ومفتوحاً للآخر في منح الهيئة الصلاحية المطلقة لتحديد المدة المؤهلة لاستحقاق المعاش، بمعنى ليس شرطاً أن يرفع إلى 65 عاماً بل قد يمتد إلى عمر الدخول إلى القبور!!

كما أن هناك مسألة تقرير السماح بضم مدد افتراضية من عدمه وهي صلاحيات بالأصل لا يجوز تعديلها إلا بعد موافقة مجلسي البرلمان، ولعل هذا ما يؤكد كلام النائب د.عيسى تركي أن هناك شبهة دستورية بالأصل فيما يخص مشروع القانون الجديد، حيث أكد أن المشرع الدستوري حرص على وضع ضمانة دستورية إضافية لحق أن تكفل الدولة تحقيق الضمان الاجتماعي اللازم للمواطنين وتؤمن لهم خدمات التأمين الاجتماعي والرعاية الصحية من خلال ضرورة أن يكون تنظيم شؤون المعاشات والتعويضات والإعانات من خلال القانون أي تحت رقابة وصلاحية السلطة التشريعية، وهذا ما نصت عليه المادة «119» من الدستور (ينظم القانون شؤون المرتبات والمعاشات والتعويضات والإعانات والمكافآت..)، وبالتالي فإن أي مشروع قانون يتجه إلى تنظيم العناصر الأساسية وأركان شؤون التأمين الاجتماعي كتحديد نسبة اشتراكات التقاعد وتحديد مدة احتساب تسوية المعاش ومدة استحقاق المعاش وغيرها من الأمور الأساسية من خلال تفويض مطلق وعام للسلطة التنفيذية لتنظيمها بأداة أقل من القانون يكون عرضة لشبهة عدم الدستورية لمساسه بجوهر الحق.

كما أن الأصل في النصوص الدستورية أنها تمثل القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم في الدولة وإذا كان الدستور قد حدد لكل سلطة عامة وظائفها الأصلية وما تباشره من أعمال، وحيث إن الدستور اختص السلطة التشريعية بسن القوانين وفقاً لأحكامه فقد نص في المادة «70» بأنه (لا يصدر القانون إلا إذا أقره كل من مجلسي الشورى والنواب أو المجلس الوطني بحسب الأحوال، وصدق عليه جلالة الملك).

لذا فإن تم تمرير القانون الجديد هذا يعني وكأنه ألغى دور السلطة التشريعية وسحب صلاحياتها بالكامل! وهو بالأصل يؤثر على نتائج الانتخابات القادمة، فأي مواطن سيدقق في مضمون التعديلات المقترحة في القانون الجديد سيلحظ وكأن هناك عدم اعتراف بدور السلطة التشريعية متمثلة في أعضاء مجلس النواب وكذلك الشورى، وأن هناك دولة ذات سيادة مستقلة ومطلقة هي الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي والمجلس الأعلى للتقاعد العسكري!

لعل فقط صمام الأمان الذي حدده القانون الجديد مسألة رفع تقارير دورية عن نشاط الهيئة وسير أعمالها إلى وزير المالية، حتى يتأكد الوزير من أن الهيئة لا يشوبها تعارض أو خروج على السياسة العامة للدولة أو مساس بالأوضاع المالية لها ومن حق وزير المالية الاعتراض على ما يراه في هذه التقارير ومخاطبة مجلس الإدارة بإعادة النظر في كل أو بعض ما ورد في التقارير، وإذا أصرَّ مجلس الإدارة على موقفه فإن الوزير يقوم برفع الأمر إلى مجلس الوزراء ليتخذ ما يراه.

ولربما الميزة الوحيدة في التعديلات التي يحملها القانون الجديد هو إيقاف حصول أعضاء مجلسي الشورى والنواب والبلديين على أكثر من معاش تقاعدي، وبالتالي سيحصلون على معاش تقاعدي واحد إما من جهة عملهم السابقة بالقطاع العام أو الخاص أو المعاش التقاعدي من عضويتهم بالبرلمان أو المجلس البلدي، كما قيد التشريع حصول المتقاعد على راتب أو مكافأة في حال قرر العمل بوظيفة أخرى بعد التقاعد أو عضوية مجلسي الشورى والنواب أو المجلس البلدي، وهنا يأتي مبدأ العدل والمساواة بين المواطنين، فلا يمكن لموظف بالدولة أن يعمل خلال أربع سنوات فيحصل ما قد لا يحصل إلا على نصفه أو ربعه موظف أفنى حياته في العمل بما يزيد عن الثلاثين سنة!

ما نؤكد عليه كسلطة رابعة في الدولة متمثلة في الصحافة أنه لا يجوز مطلقاً المساس بمكتسبات المواطن ولا يجب العبث بها أبداً! الإخفاقات الحاصلة في إدارة أموال المواطنين يجب أن يتحملها من كانوا السبب لا المواطن المغلوب على أمره، لو توجهتم بالسؤال إلى العديد من الموظفين سواء في القطاع الحكومي أو الخاص عن طموحاتهم الوظيفية لربما البعض يصدم أن هناك من ينتظر التقاعد على أحر من الجمر لعدة أسباب منها كثرة المشاكل والصراعات بين الأحزاب الوظيفية والشللية السائدة في بعض القطاعات وكثرة الالتزامات الأسرية والعائلية بالأخص عند الموظفة المرأة إلى جانب الأمراض المزمنة التي يعاني منها معظم البحرينيين والتي «تهد حيله» بعد خدمة 15 سنة أو أكثر فيضحى ينشد التقاعد، فما بالك بمن يأتي له اليوم ليقول له «قد يرفع سن التقاعد بحيث تعمل حتى آخر يوم من عمرك!».

كثير ممن يقتربون من سن التقاعد بالأصل يتطلعون ويبحثون عن مزايا تقاعدية تعمل على تحسين وضعهم المالي وضمان حياة كريمة بعد التقاعد، ولعل هذا ما يدفع الكثير من المتقاعدين في القطاع الحكومي وبعد التقاعد إلى البحث عن وظيفة أخرى في القطاع الخاص بنظام العقود لكثرة الالتزامات الأسرية وعدم القدرة على الإيفاء بمتطلبات الأبناء الذين بعضهم لايزالون على مقاعد الدراسة في المدارس والجامعات إلى جانب كثرة القروض التي لا تجعل الراتب التقاعدي قادراً على الصمود إلا خلال الأيام الأولى من الشهر، أما مكافأة نهاية الخدمة فالغالب يصرفها كاملة في العلاج بالخارج أو بناء ملحق لأبنائه المتزوجين داخل المنزل أو شراء سيارة لأبنائه، أي أن مكافأة نهاية الخدمة هذه من النادر أن يستخدمها المتقاعد لنفسه أو يدخرها لاستخدامها وقت الحاجة أمام الوضع المعيشي المعروف عند الأسرة البحرينية! إلغاء مكافأة نهاية الخدمة تجعل لسان حال المواطن يقول «بعد 30 خدمة بالوظيفة تجعل أحلامي هباء منثوراً؟».

إن تسليم عهدة مستقبل المتقاعدين والموظفين الحاليين إلى الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي والمجلس الأعلى للتقاعد العسكري، يعني ترك مصير المواطن الموظف خلال السنوات القادمة معلقاً ما بين السماء والأرض وخلق حالة عدم استقرار وتوازن نفسي وترسيخ الإحساس بعدم الأمن الوظيفي والأمان المعيشي لأنه لن يعرف في كل سنة ما هي بدعة التقاعد الجديدة التي من الممكن أن تقرها هذه الجهات المستقلة تماماً والبعيدة عن مجلس الشعب «الذي بالأصل المواطن فقد الثقة فيه ولم يعد يشعر أنه قريب من همومه وتطلعاته»، فالمواطن سيبقى مرهوناً بقرارات مجلس إدارة قد تتغير تشكيلة أعضائه الذين قد يكونون بعيدين عن همومه واحتياجاته ولا يشعرون به وبيدهم تحديد مصير حقوقه ومستقبل حقوق أبنائه التقاعدية وسلب المزايا الوظيفية والتقاعدية.

ولو فكرنا بصورة أشمل وبعيدة المدى، فهذا بالأصل ضد المشروع الإصلاحي لجلالة الملك في التكفل بالحياة الكريمة للمواطن وتحقيق الرفاهية الاجتماعية له، فمثل هذه القوانين بالأصل تخل بمزايا المواطنة التي تربط المواطن بدولته وتعزز انتماءه لهذه الأرض!

إن إطالة عمر صندوق التأمين الاجتماعي والحفاظ على أمواله وتفادي العجز فيه لا يكون حله باستنزاف الرمق الأخير من جيوب المتقاعدين والمواطنين، فالمزايا التقاعدية ليست مكرمة أو هبة بل هي أموال المواطنين وحق أصيل من حقوقهم و الحل يكمن في وعي وكفاءة العقول التي تدير أموال الناس وطرق استثمارها وحفظها لترجع بمردود يتيح الابتعاد عن إيجاد عجز متضخم ومتراكم في الصناديق التقاعدية وطرح قوانين ما يمكن وصفها بــ»مطاطية المعنى» تتيح مد اليد على المزايا التقاعدية أو رفع مبلغ اشتراك التقاعد أو تحديد مدة احتساب متوسط الراتب الذي يتم بناء عليه تسوية المعاش فالموظف في نهاية فترة خدمته لا يود التسوية على حقوقه بقدر ما يود التقدير والشعور بالاعتراف بمجهوداته وعطائه للوطن من خلال صيانة كرامته المعيشية لا التفاوض بشأنها!

الكثير من الأقاويل في الشارع البحريني اليوم تتداول أن مشروع التقاعد قد يكون سيناريو لإيجاد بطولة أخيرة لمجلس نواب لم يلبِ طموحات المواطن المعيشية ولتعزيز مكانة مجلس الشورى، وهناك آراء تؤكد أن مجلس الشورى قد يخذل المواطن البحريني فيوافق على تعديلات قانون التقاعد الجديد، وأمام سيناريو متكرر مورس سابقاً بتغير مواقف بعض النواب وقت جلسات التصويت رغم منحهم للمواطنين وعوداً سرعان ما تتبخر أمام إغلاق هواتفهم وتنصلهم من الإيفاء بالوعد، لن يكون مستغرباً أن تكون هناك مطالبات بأن تكون جلسة المجلس الوطني سرية في حال موافقة مجلس الشورى على القانون الجديد!