كثير من الأمور الغامضة التي تحدث أمامنا قد لا نجد لها تفسيراً في حينها ولا نفطن إليها، ثم ندرك أن هناك رسالة قد فاتتنا من ورائها ولربما تحمل الكثير من العبر ودروس الحكمة!

يومها كنت مشغولة بتصفح بعض مواقع التواصل الاجتماعي، فلفت نظري قفص العصافير المقابل لمكان جلوسي، وكيف أن أحد العصافير كان جالساً يمسح رأس العصفور الآخر بطريقة غريبة وكأنه يواسيه أو يخفف عنه، كان العصفور الآخر يقوم بدفن رأسه تحت جناحه بطريقة أغرب وكأنه يحتمي به! في العادة ما نسمع لهما صوتاً وهما يقفزان داخل القفص أو يغردان أو يلعبان لكن ذلك اليوم كان صوتهما خافتاً!

طيلة العامين وهي مدة وجود هذه العصافير ببيتنا لم أر مثل هذا المنظر يحصل بينهما بل الأغرب أن الببغاء كانت تترك مكان جلوسها وتظل جالسة فوق قفصهما ومهما حاولت إبعادها وأخذها لمكانها تعود لهما وتظل جالسة فوق مكانهما بالضبط!!

لم أعر الانتباه لهما كثيراً وظننت أنهما يدردشان بلغة العصافير غير المفهومة، فأردت التقاط مقطع فيديو لهما لوضعه على السناب شات، لكن خوفهما مني عند الاقتراب للتصوير جعلني أتركهما رغم أنني شعرت وقتها أن هناك شيئاً غريباً يحدث لكني لا أفهمه ولا يفهمه سوى جمع الطيور هؤلاء!

في اليوم التالي اكتشفت الفاجعة! العصفور الذي كان يمسح رأس العصفور الآخر توفي!! استوقفني الموقف كثيراً لأنني لم أفهم وقتها أنه كان يحتضر ويبدو أن العصافير فهمت ما نعجز نحن البشر عن فهمه والإحساس به!

الأغرب أن العصفور الآخر ظل طيلة اليوم لا يتحرك ولا يغرد ولا يلعب ويسقط الماء كعادته كل يوم، بل الأغرب أكثر أنني عندما بادرت بشراء قفص آخر أكبر ووضعت له 3 طيور معه وقد اهتممت بإحضار «عصفورة له» حتى لا يتأثر، ظلت الطيور الثلاثة مع بعضها البعض تلعب فيما هو ظل واقفاً لوحده لا يتفاعل معهم!! في المساء جلس العصافير الثلاثة بالقرب من بعضهم البعض وكأنهم ناموا حيث هدأ صوتهم، فيما هو ظل واقفاً بعيداً عنهم بمفرده أيضاً!!

الموقف الأول الذي شدني أن هذا العصفور الذكر تأثر بموت شريكته في القفص لدرجة أنني عندما أخذته إلى المحل أيضاً لم يتحرك أو يتفاعل أو يغرد وهو يرى عشرات الطيور من حوله، ورغم أنني أحضرت له عصفورة أخرى لم يتفاعل معها في موقف يعكس وفاء الطيور ويلقن البشر دروساً لم نعد نراها إلا فيما ندر، فمن النادر مثلاً أن نجد رجلاً يتأثر بوفاة زوجته بنفس الطريقة فترة طويلة!

أما الموقف الآخر الذي جعلني أتأمل كثيراً فيما حدث، أنه كان من الواضح أن هناك خطباً ما في ذلك اليوم أمام عدم رغبة الببغاء بمغادرة المكان وأمام محاولات العصفور التخفيف على العصفور الذي يحتضر، فهناك في عالم الطيور عالم خفي لا ندركه نحن البشر حتى وإن شعرنا به لا نجد له تفسيراً، فمنطق الطير لم يفهمه سوى سيدنا سليمان عليه السلام!

أما الموقف الأكثر تأثيراً تأثرنا بوفاته رغم عهدنا به منذ سنتين وهو مجرد طائر صغير، وأمام هذا الإحساس بفقده لا نعلم حقاً إلى اليوم كيف تهون الأنفس عند الآخرين ويغدر البشر ببعضهم البعض ويرتكبون مجازر دموية بشعة المناظر وعنيفة التفاصيل دون ذرة شعور أو وخزة ضمير، ونحن هنا نقصد أولئك المجرمين والإرهابيين الذين نراهم بعد قتلهم للناس يتفاخرون ويبطشون أكثر!

وأنا انظر للعصفور وهو حزين ومتأثر على فراق صاحبته طافت بمخيلتي العديد من المواقف والمناظر، موقف شاب يدهس طفلاً ويفر هارباً ويتركه بدمائه، وكم من الحوادث يستهتر أحدهم بالسياقة فيوقع المآسي في حياة الآخرين ويتسبب لهم بعاهات مستديمة، ورغم كل ما فعله يهرب بل وحتى إن تم ضبطه ينكر ويحاول لصق تهمة استهتاره في السياقة بهم وهم في وضع صحي حرج بسببه وما بين الحياة والموت وفي ذمته ما حصل لهم دون أدنى ضمير. كم من زوج يرمي زوجته في الشارع بعد عشرة عمر طويلة وينكر كل أفضالها عليه ويقدم الأعذار والحجج على أفعاله تجاهها وخيانته لها دون خشية الله فيما فعله فيها ودون أدنى إحساس بالمسؤولية تجاهها وتجاه أبنائه منها في مشاهد ينعدم فيها الضمير الإنساني والوفاء، وحتى عندما يستنجد به أبناؤه أو يطلبون منه ألا يضيعهم في متاهات الحياة لا يحرك ساكناً «العشرة ما تهون إلا على ابن الحرام كما يقال».

كم من ابن أو ابنة يقومون برمي آبائهم وأمهاتهم بعد عمر طويل في دار العجزة أو يهملون زيارتهم وهم على فراش المرض بالمستشفيات ويتركونهم يصارعون آخر لحظات حياتهم دون أدنى إحساس ورد جميل تربيتهم وتضحياتهم وتعبهم، بل هناك من يترك والده أو والدته بمفردهم يعيشون في المنازل لوحدهم ويهمل مسؤولياته تجاههم ويقصر في تواصله معهم!

من القصص التي لا أنساها وطافت بي لحظتها قصة إحداهن التي أغمى عليها وعندما أخذت للمستشفى أبلغوا زوجها أنها تعاني من مرض عضال، فغادر المستشفى قبل أن تستيقظ واتصل بأبيها ثم بعد فترة أرسل ورقة طلاقها وانسحب من حياتها بهدوء دون أن تدري المسكينة وظلت لا تدري وتسأل عنه باستمرار وتحاول أن تكلمه وهي في رحلة العلاج بالخارج إلى أن صعدت روحها إلى بارئها، فالمرض كان شرساً ولم يمهلها الكثير من الوقت!

ونحن نطالع صور شهداء الواجب والجرائم التي ارتكبت بحقهم لا سيما ممن تم دهسهم بالسيارة مراراً وتكراراً وممن أطلقوا النار عليه وممن قاموا بحرقه وغيرهم.. مجرد مطالعة صور لهم شعور يقتلنا ويدخلنا في دوامة من الألم فكيف بمن نفذ هذه الجرائم وعاين لحظات اقتطاف روح ضحاياه على يده دون إحساس؟ كيف ينام ويشرب ويعيش حياته وقد ارتكب كبيرة من الكبائر؟

بصدق لا أعلم لأي فصيلة من مخلوقات الله ينتمي هؤلاء، ولعل آية «ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم» من سورة البقرة تحمل جوابنا!

* إحساس عابر:

من المسجون في أقفاص الحياة دون أن يدرك أجمل معانيها ومغانم الوفاء والتضحية والحب والإخلاص.. نحن أم العصافير؟