وكأننا نسمع أصوات الشعب العراقي وهو يصرخ مستغيثاً من الطغمة السياسية الحاكمة التي أضرت به أيما ضرر، على مدار أكثر من 15 عاماً منذ إعلان سقوط نظام الرئيس السابق صدام حسين، ثم الاحتلال الأمريكي للبلاد، وتسليم العراق لإيران على طبق من ذهب، على وقع دعوات أمريكية زائفة بحياة ديمقراطية براقة، وعدوا العراقيين أن يحيوها، لكن الحقيقية المُرَّة هي الاستيلاء على نفط العراق، والقضاء على أحد أقوى الجيوش العربية، والتنكيل بالشعب، واستغلال أخطاء قاتلة لحاكم يصنف في المقام الأول على أنه بعثي، ديكتاتوري، قبل أن نحسبه على أنه من الطائفة السنية الكريمة. وإذا كان العراقيون قد عانوا قبل الاحتلال من طغيان وعدم حكمة صدام، لكنهم بعد الاحتلال يعانون الآن من ديكتاتورية عشرات الصداميين، في بلد يعوم على النفط، وينتج نحو 5 ملايين برميل من الخام يومياً، ومن المنطقي أن يكون الدخل السنوي يتجاوز عشرات المليارات من الدولارات سنوياً نتيجة بيع النفط الخام، لكن خيرات العراق على مدار عقد ونصف، ليست لأهله، بل للطغمة السياسية الحاكمة، ولأمريكا وإيران. ولا شك في أن الحكومات الشيعية المتعاقبة فشلت فشلاً ذريعاً حتى الآن في أن توفر الخدمات الأساسية للشعب العراقي، ناهيك عن ضعف الحالة الأمنية، وانتشار الفساد، والفقر، والأمراض، والأوبئة. ووفقاً لمنظمة الشفافية الدولية، حل العراق في المرتبة الـ169 من بين 180 دولة في مؤشر الفساد لعام 2017. ومن المعلوم أن الموارد النفطية للعراق تبلغ نحو 89% من ميزانيته، كما أنها تمثل 99% من صادرات البلاد، لكنها تؤمن 1% فقط من الوظائف من العمالة الوطنية لأن الشركات الأجنبية العاملة في البلاد تعتمد غالباً على عمالة أجنبية، وفقاً لما ذكرته وكالة الصحافة الفرنسية في تقرير لها.

من جانبها، أكدت وكالة التصنيف الائتماني «ستاندرد آند بورز» تصنيفها الائتماني للعراق عند «B-/B» مع نظرة مستقبلية مستقرة، لكنها قالت في تعليقها على التصنيف المالي إن «التطور السياسي والاقتصادي يعرقله فساد واسع الانتشار»، حيث اعتبرت الوكالة الدولية أن «محاربة الفساد والتهديدات الأمنية الخارجية تمثل تحديات رئيسة للعراق في الأجل القصير»، في حين أن العراق يعد ثاني أكبر مصدر للنفط في منظمة الدول المصدرة للنفط «أوبك»، كما أنه يمتلك رابع أكبر احتياط للنفط الخام في العالم.

ولعل أحدث ما صدم العراقيين، ما أعلنه المتحدث باسم مجلس محافظة البصرة جنوب العراق -الغنية بالنفط- أحمد السليطي، من أن «محافظة البصرة باتت منكوبة جراء الارتفاع المتصاعد لتلوث المياه بسبب زيادة الملوحة»، على وقع تحذيرات مكتب حقوق الإنسان المحلي من خطورة الأوضاع في المحافظة. وأوضح السليطي، وفقاً لما نقلته وكالة الأناضول للأنباء أن «مجلس المحافظة حذر في وقت سابق من حصول حالات تلوث في البصرة باعتبارها محافظة يصب فيها نهرا دجلة والفرات القادمان من المحافظات الشمالية مروراً بوسط البلاد وجنوبها»، مشيراً إلى أن «البصرة وبسبب توقف المشاريع والمشاكل التي تعاني منها باتت منكوبة».

والعبارة الأخيرة في تصريحات المسؤول العراقي مؤشر قوي إلى مدى الإهمال الذي يعانيه العراقيون فيما النخبة السياسية الحاكمة تتصارع فيما بينها، وتسابق الزمن، على اختيار الكتلة البرلمانية الأكبر التي يحق لها اختيار رئيس الوزراء العراقي القادم.

لذلك سارع ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي لإطلاق هاشتاغ «أنقذوا_البصرة»، على خلفية تسجيل آلاف الإصابات جراء التلوث، ونقص الأدوية، وارتفاع نسبة الملوحة في المياه. الأمر ذاته، دفع مفوضية حقوق الإنسان ب‍البصرة، إلى التحذير من خطورة الأوضاع بالمحافظة نتيجة ارتفاع نسبة الملوحة وزيادة التلوث، حيث حملت الحكومة العراقية المسؤولية لأنها «لم تتحرك بأي إجراء يوازي حجم الكارثة»، على حد تعبير المفوضية.

ويبدو أن الصراع السياسي المحتدم بين الطبقة السياسية على حكم العراق، أنسى المسؤولين، الخدمات الأساسية التي يجب أن تكون متوفرة في أي بلد، وليست في بلد من المفروض أنه غني، ويعوم على ملايين البراميل من النفط يومياً التي من المنطقي أنها تدخل مليارات الدولارات من النفط سنوياً لخزينة البلاد.

وتخوض الحكومة المنتهية ولايتها بقيادة الرئيس حيدر العبادي امتحاناً صعباً لمواجهة تلك الأزمة، في حين هدد 25 عضواً في البرلمان العراقي، فازوا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة عن محافظة البصرة، بعدم التصويت لصالح الحكومة المرتقبة، في حال لم تضع حلولاً لمشاكل المحافظة أبرزها شح مياه الشرب وتلوثها.

ووفقاً لما ذكرته وزارة الموارد المائية العراقية فإن «البصرة، تعتمد في الغالب على مياه شط العرب لتغذية مشاريع معالجة المياه، إلا أن نسبة الأملاح الذائبة في المياه بلغت مؤخراً بلغت «7500 tds»»، وهي وحدة قياس نسبة ملوحة المياه، بينما تؤكد منظمة الصحة العالمية، أن النسبة تصبح غير مقبولة في حال تجاوزت «1200 tds».

ولا يلوح في الأفق أي مساعدات إيرانية أو أمريكية لانتشال العراق من أزماته، بل على العكس، تؤكد إيران بين فترة وأخرى سعيها لابتزاز العراقيين، ومطالبة حكومة العراق بأموال وتعويضات عن حروب وصراعات جرت قبل نحو 40 عاماً، وهو ما ظهر جلياً قبل أيام في تغريدة كتبتها مساعدة الرئيس الإيراني لشؤون المرأة والأسرة، معصومة إبتكار، حينما قالت على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، «يجب إضافة التعويضات البيئية لحرب العراق والحرب الكويتية والأضرار التي لحقت بالخليج، وتقدر قيمتها بمليارات الدولارات». وذكرت أن «الحكومة الثامنة «حكومة الرئيس الأسبق محمد خاتمي»، رفعت شكوى للجنة الأمم المتحدة بهذا الشأن». وهي بذلك تطالب بتعويضات عن الأضرار التي لحقت بالبيئة نتيجة حرب الخليج الأولى، التي اندلعت بين البلدين في عهد صدام حسين واستمرت 8 سنوات بين عامي 1980 و1988. ولم يتوقف الأمر عند المسؤولة الإيرانية، بل إن نائب رئيس مجلس الشورى الإيراني محمود صادقي، طالب العراق بدفع تعويضات عن الحرب العراقية الإيرانية، وقال في تغريدة على «تويتر»، إن «الحكومة الإيرانية أجلت التعويضات على العراق بسبب المحنة التي يمر بها، والآن الحكومة العراقية توافق على العقوبات القمعية ضد الشعب الإيراني بدلاً من التعويض»، وكان يغمز من قناة إقرار رئيس الحكومة المنتهية ولايتها حيدر العبادي على التزامه بالعقوبات الأمريكية الجديدة المفروضة على إيران.

وجاء الرد العراقي على الابتزاز الإيراني على لسان النائب السابق في مجلس النواب العراقي فائق الشيخ علي، بعدما غرد على «تويتر» قائلاً «رداً على مطالبة نائب رئيس مجلس الشورى الإيراني محمود صادقي العراق بتعويضهم عن الحرب بـ1.1 مليار دولار أمريكي، فإنني باسم عوائل ضحايا الإرهاب أطالبك وأطالب دولتك بـ11 مليار دولار أمريكي، تعويضاً عن مليون عراقي قتلتموه، حينما أدخلتم القاعدة إلى بلادنا منذ 2003 بحجة محاربة الأمريكيين».

* وقفة:

لعل ما يدعو العراقيين إلى الحسرة على أوضاعهم أن البلاد الغنية بالنفط منكوبة بفساد الطغمة السياسية التي تتصارع من أجل الحكم ومنصب رئيس الوزراء على وقع نهب أمريكي إيراني لثروات الشعب!!