لحظة!! لحظة!! رجاء عدم اللمس فالأمر لن يتعدى أكثر من ثوانٍ معدودة، هذا ما حدّثت به نفسي عندما تناولت كوب القهوة الساخن من النادل في أحد المقاهي.

فكوب القهوة مع بخاره الذي يتسلل بعناء من خلال الكريمة البيضاء يعتبر عند عشاق القهوة مشهداً بألف مشهدٍ، وعند مدمني برامج التواصل الاجتماعي صورة ليس لها مثيل يتبادلونها مع أقرانهم من محبي القهوة. وإذا اجتمع عشاق القهوة مع محبي التصوير الفوتوغرافي مع المتفاعلين مع برامج التواصل الاجتماعي في شخص واحد، فماذا تكون النتيجة يا ترى؟

هذا تماماً ما حصل معي عندما تشاركت جلسة لطيفة مع ابنتي الصغيرة ذات الثلاث سنوات بقصد أن أشعرها بأنها لا تقل أهمية عن إخوانها الذين يكبرونها وأنه لا بد أن نجد لنا حديثاً شيقاً مشتركاً بكلمات صغيرة وجمل متكسرة وعبارات مبعثرة، إلا أن جلسة الحوار تحولت إلى جلسة تصوير بهاتفي وكلما حاولت أن أضعه جانباً لأتناول كوب قهوتي، سمعت صغيرتي تناديني: «ماما صوريني بعد!!». ولم يقف الأمر عند التصوير فقط، وإنما لا بد أن تعاين الصورة أولاً كي تبدي رأيها إن كانت جميلة أو لا. واستمرينا على هذا المنوال إلى أن تناولت كوب القهوة لأجده بارداً فاقداً حرارته ونكهته المتوقدة والآيس كريم الخاص بابنتي سائلاً لا يُعرف له لون واحد. وبخطفة سريعة على الطاولات المجاورة رأيت الأغلبية شاغلهم نفس ما شاغلني أنا وصغيرتي. تنهدت وتناولت كوب القهوة البارد محدثة نفسي من جديد: «الظاهر أننا كلنا في العالم الأزرق معاً».

أعلم جيداً أن المشهد هذا مكرر في حياتنا اليومية وسوف يتكرر مراراً وتكراراً، ولكن السؤال الأهم: إلى متى؟

متى سنستيقظ من كابوس وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت للكثيرين جزءاً لا يتجزأ من برنامج حياتنا اليومي؟ كم مرة غفلنا عن الاستمتاع بجمال اللحظة ونحن نحاول أن نحتجزها ضمن إطار فوتوغرافي يكاد لا يعكس حقيقة المشهد وجماله؟ كم مرة أجدنا التمثيل لنظهر ابتسامات براقة ونحن نخفي في صدورنا ألماً وحزناً وأسى؟!! يرجى ألا يفسر كلامي أنني ضد وسائل التواصل الاجتماعي ومنفعتها وإيجابياتها ولكنني أصبحت ضد تقنين اللحظة وتحديدها ضمن إطار مزيّف قبل الاستمتاع بها بالشكل الحقيقي الخالي من أي إضافات زائدة.

والدرس الثاني الذي استخلصته، علّنا ألا ننشغل عن الأمور الأساسية بأخرى ثانوية مهما صَغُر أو كبر حجمها، لأن قيمتها تتبدد مع الزمن حتى ولو حُجزت بإطار من ذهب بينما الأمور الحقيقية تبقى عالقة في القلب والعقل والخاطر وتبقى محافظة على حرارتها مهما دار عليها الزمن.