لطالما تساءل كثير من الكتاب والمثقفين وربما حتى المؤرخين «من يكتب التاريخ؟»، وهو سؤال نوقش ملياً وكان في أغلب الأحيان يخرج بنتيجة أن التاريخ يكتبه المنتصر. في منظور مختلف، أثارني ما كتبه المؤرخ الأمريكي هوارد زِنْ «1922-2010» حول التاريخ من منظور الشعب، ولعله يكون هو الرواية الأكثر واقعية والأقرب للحقيقة من ذلك التاريخ الذي اختارت أن تكتبه السلطات أو جهات تمثلها، وأكثر إنصافاً بالتأكيد من كثير من الروايات التي سيوردها المنتصر في توثيق سيرته وتخليد بطولة نصفها مصنوعة. فهوارد زن يعتقد أن وجهات النظر التي تتناولها كتب التاريخ التقليدية محدودة في أغلب الأحيان، ذلك أنها تمثل مصلحة طبقة مهيمنة معينة.

لهذا.. كان زن صاحب الكتاب الكلاسيكي غير المسبوق «تاريخ شعبي للولايات المتحدة: منذ 1492»، يميزه عما ألفه بقية المؤرخون أنه كتب من وجهة نظر المحرومين والمستضعفين، وعموم الشعب، ولم يكتب بدماء الضحايا والأبرياء بأقلام السلطات العاجية. كتابه هذا جاء في 768 صفحة، قال عنه ملحق مراجعة الكتب الشهير في جريدة «نيويورك تايمز» إن «المؤرخين سيعتبرونه –بحق– خطوة في اتجاه نسخة معدّلة ومتماسكة من التاريخ الأمريكي». هذا الكتاب كان الأكثر مبيعاً، حتى أنه تم الاحتفال به عام 2003 بمناسبة بيع النسخة رقم مليون منه..!! وللباحثين عن الكتاب مترجماً، فقد ترجمه إلى العربية شعبان مكاوي عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر عام 2005، وعنوانه «التاريخ الشعبي للولايات المتحدة».

وكان من جميل قول زن بشأن كتابة التاريخ «في عالم يمضي في طرق محددة مسبقاً، حيث الثروة والقوة محددة سلفاً، الحياد يعني قبول الأشياء كما هي عليه الآن. إنه عالم من المصالح المتضاربة: حرب ضد سلام، وطنية ضد عالمية، عدالة ضد جشع، وديمقراطية ضد نخبوية. ويبدو لي الأمر أنه من المستحيل، وأيضاً من غير المرغوب فيه، أن تكون محايداً في مثل هذه النزاعات»، مضيفاً قوله: «أنا لا أدعي أنني محايد، ولا أريد أن أكون كذلك. أنا أحاول أن أكون عادلاً بطرح الأفكار المتضادة وعرضها بدقة».

* اختلاج النبض:

عندما تعرفت على هوارد زن وكتابه، وألقيت نظرة على جوانب من فكره وبعض أقواله والطريقة التي يوثق بها التاريخ، تساءلت ملياً إذا ما كان ثمة مؤرخ عربي قد فعلها يوماً –عدا الكتب المتضاربة والمؤدلجة التي غطت الربيع العربي– والحقيقة لا يمكنني نفي ذلك كما لا يمكنني إثباته، غير أني أرجو أن يكون كذلك. وعلى كل حال، فإن الفرصة ما زالت سانحة للمؤرخين في زماننا لتحقيق ثورة تأريخية مميزة لكثير من المفاصل التاريخية المهمة في بلادنا العربية التي ما زال بعض معاصريها أحياء، أو حتى توثيق المرحلة الراهنة من تاريخنا بمنظور الشعوب والأقليات والمستضعفين في بلادهم.