طبعاً ليس خبراً معنياً بالبحرين على الإطلاق، لأننا كما يقولون الغالبية منا، من سابع المستحيلات أن تجد وزيراً لدينا يتقدم باستقالته، حتى لو تسبب القطاع المسؤول عنه بكارثة يتضرر منها الناس.

بل أتحدث عن وزير الأشغال العامة ووزير الدولة لشؤون البلدية في دولة الكويت الشقيقة، حسام الرومي الذي قدم استقالته بسبب الأمطار الغزيرة التي هطلت وألحقت أضراراً كبيرة في الممتلكات.

كنت في الكويت الأسبوع الماضي، ورأيت حجم الأضرار التي خلفتها الأمطار الكثيفة، واستوعبت حجم الضرر الحاصل، وقارنته بما حصل لدينا قبل أسابيع في البحرين، والحق يقال بأن الضرر الذي وقع على الإخوة في الكويت أكبر، وتكدس المياه في الشوارع، بل وتحولها لفيضانات وتحرك السيارات الواقفة، كان شيئاً لم نشهد مثله في البحرين.

الأمطار التي وقعت على الكويت يوم الإثنين الماضي، نتج عنها إحالة مدير إدارة هيئة الطرق إلى التقاعد، لكن أمطار الخميس والتي استمرت ليومين بعدها، جعلت الوزير -الذي مسك الوزارة حديثاً- يقدم استقالته ويصدر بياناً يقول فيه: «انطلاقاً من مسؤوليتي الأدبية، وتعزيزاً للنهج الذي اختطه رئيس مجلس الوزراء في تحمل تبعات المسؤولية الجسيمة التي تتحملها الحكومة، فقد تقدمت باستقالتي إلى الرئيس».

حادثة الوزير الرومي ذكرتني بحادثة مشابهة -فيما يتعلق بالاستقالة الأدبية- حصلت في الكويت في عام 2002، على خلفية انفجار في المنشآت النفطية في حقل الروضتين النفطي أدى لإصابات ووفاة أربعة أشخاص، ونتيجة لذلك تقدم وزير النفط الكويتي آنذاك عادل الصبيح باستقالته، متحملاً المسئولية الأدبية. بداية نتمنى لأشقائنا في الكويت أن يحفظهم الله بحفظه، وأن يحفظ ممتلكاتهم ويهون الأمور عليهم، وأن تكون الأمطار سقيا خير عليهم. لكن الحديث هنا يرتكز على هذا المفهوم الغائب عن كثير من دولنا العربية، وأعني مفهوم «الاستقالة الأدبية»، والتي لا تصدر إلا عن أشخاص يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن كافة الأمور التي تحصل في قطاعاتهم، حتى لو لم تكن المسؤولية مباشرة منهم، ولم تكن جراء قرار أو سياسة يتبعها، بل عن أمور خارجة عن الإرادة، إلا أنهم يرون المسؤولية والأمانة تحتم عليهم تحملها وأن نتيجتها يجب أن تكون أولاً عليهم، بالتالي يتقدمون باستقالاتهم. أتذكرون الوزير البريطاني مايكل الذي انتشر مقطع شهير عنه قبل شهور، حين دخل جلسة مجلس العموم متأخراً، واكتشف بأن المجلس ناقش سؤالاً موجهاً له، طلب الحديث وقال: «أشعر بالعار لأنني لم أكن موجوداً لأجيب على السؤال، ولهذا أعلن استقالتي الفورية». ثم غادر الجلسة، وسط مطالبات من أعضاء العموم أنفسهم بأن يعدل عن قراره، لكنه مضى في طريقه.

هذا نوع متقدم جداً من تحمل المسؤولية، نوع يضع المسؤول الأول نفسه على المحك، ويعتبر بأنه المسؤول عن كل شيء، وهي ثقافة تغيب تماماً عن مجتمعنا وكثير من الدول الشبيهة، إذ لدينا تجد المسؤول الأول يرى الكارثة تحصل، ويدرك تماماً أنها من مسؤولية القطاع المؤتمن عليه، ولربما تكون المصيبة نتيجة تقصير وإهمال وعدم تخطيط، لكنه مع ذلك يكون في وضعية «لا أسمع، لا أرى، ولا أتكلم»، ولو تكلم لربما وجدنا معلقات طويلة من التبريرات والتصريحات الصحافية، أو لربما وجه بأن يصدر التصريح من أحد غيره، أقل منه رتبة، حتى يكون تعليق الناس على هذا المسؤول، وردة الفعل متجهة تجاهه، لا تجاه المسؤول الأعلى منه، والذي يفترض أن يكون هو المسؤول.

احترام الناس، نقطة محورية تؤسس لهذه الثقافة، لكن هناك نقطة أهم، تتمثل بوجود ضمير حي، ووجود إيمان بالمسؤولية، وأن هذا المنصب أو ذاك «تكليف» وليس «تشريفاً»، وهو تكليف له «كلفة باهظة» إن أخفقت وحققت سخط المجتمع وتضرر من أدائك الوطن.

وللتوضيح أخيرا، فإننا نعني هنا من يستقيل بملء إرادته، لا من يوجه بتقديم الاستقالة حتى يحفظ ماء وجهه، ولا من يقال بسبب تراكم الأخطاء. إذ فارق كبير بين من يتحمل المسؤولية ويدفع ضريبتها حتى لو كانت على نفسه، وبين من يتشبث بالكرسي حتى لو قامت القيامة، وحتى لو طالب جميع الناس بتغييره.

لذلك دائماً ما نقول للمسؤولين وحتى النواب ومن في حكمهم من ذوي المسؤولية، بأنه في حال الإخفاق، وفي حال تخييب ظن الناس، وفي حال الفشل في تحقيق الأفضل للوطن، فإن الاستقالة هي المطلوبة، لأنها على الأقل ستحفظ لك شكلك في المجتمع، كونها ستأتي على أنها «استقالة أدبية إقراراً بالمسؤولية». لكن طبعاً لدينا، من سابع المستحيلات!