نواصل في الجزء الثالث من المقال حديثنا عن نماذج عربية في التنمية السياسية.

- البعد الثقافي للمجتمع السياسي:

بالنسبة للبعد الثقافي للمجتمع السياسي، فإن التنمية السياسية تتجه إلى خلق ثقافة سياسية تلح على النظرة العلمية لأمور الحياة، وتحث على معاني المساواة، والثقة في السلطة، وذلك من أجل التأكيد على معاني الولاء القومى الذي يتخطى الولاءات المحلية الضيقة، وتشجع على المشاركة السياسية. بعبارة أخرى، أن هذا الجانب المعنوي يرتبط بتنمية الوعي القومي أو التوعية. ويتسع أساساً ليشمل التحديث السياسي.

3- زيادة فعالية النظام:

يتمثل البعد الثالث في زيادة فعالية النظام، ويتضمن ذلك تطوير قدرات النظام، وذلك لضمان استمراريته، ولمواجهة أزمات التنمية السياسية. في هذا الصدد يمكن النظر إلى التنمية السياسية على أنها أحد جوانب عملية التغير المجتمعي المتعددة الأبعاد كما يراها «باي». حيث تثار العلاقة بين النظام السياسي كنظام فرعي والنظم الفرعية الأخرى في إطار النظام المجتمعي، ويتصل بذلك أيضاً النظر على التنمية السياسية كمتطلب سابق على التنمية الاقتصادية والتحول من الاقتصاد الراكد إلى الاقتصاد الديناميكي، وهنا يثار التساؤل حول ماهية الظروف السياسية التي تجعل عملية التحول والتنمية الاقتصادية أمراً سهلاً. وهكذا يرى البعض -انطلاقاً من هذا التصور- أن التنمية السياسة هي الوضع الذي يسهل عملية التنمية الاقتصادية، وفي هذا الصدد يثار التساؤل عن السياسات العقلانية والرشيدة ـمن وجهة النظر الاقتصاديةـ التي تتخذها الحكومة مع الأخذ في الاعتبار أن مشكلات التنمية السياسة تختلف تبعاً لاختلاف المشكلات الاقتصادية لكل دولة. ويتصل بذلك أيضاً النظر إلى التنمية السياسية على أنها تقليد للنظام السائد في المجتمعات الصناعية حيث يكون أهم خصائص هذا النظام سلوك حكومي عقلاني ومسؤول، وتجنب الأعمال غير الرشيدة التي تضر بمصالح القطاعات الهامة في المجتمع، وتبني النظام لبرامج الرفاهية. وتتصل هذه النظرة للتنمية السياسية بنظرة «روستو» إليها حيث يربط بين العلاقة بين مراحل النمو الاقتصادي وأشكال النظم السياسية، فإذا بالتنمية السياسية لديه هي الحالة التي تسهل عملية النمو الاقتصادي، أو هي أحد مستلزمات التنمية الاقتصادية. ولا شك في أن هذه الزوايا في النظرة إلى التنمية السياسية تثير العلاقة بينها وبين الجوانب الأخرى للتنمية المجتمعية أو ما يسمى بالجانب السياسي للتنمية أو الجوانب السياسية لعملية التنمية المجتمعية، حيث تثير مشكلة القيادة أساساً وتتستر خلفها مشكلة الاختيار من قبل تلك القيادة لدفع تلك العملية.

يتصل بذلك، أن التنمية السياسية لدى» ألموند وبويل» تعني تنمية قدرة النظام على مواجهة مشاكل وأزمات التنمية، حيث يلزم للنظام توافر قدرتين أساسيتين هما: القدرة الاستخراجية والقدرة التنظيمية، وذلك أمر أساسي قبل أن يبدأ النظام في توزيعه موارده. ونفس المعنى نجده لدى هيلو، كما أن باي يذكر أنها تعني زيادة كفاءة النظام السياسي على تحقيق أقصى قدر ممكن من النفع باستخدام الموارد المتاحة ولمواجهة مطالب الأفراد، وهو الأمر الذي يمكن أن تتبعه عملية وضع معايير لكفاءة يمكن الاختيار من بينها. وهكذا فإن التنمية السياسية تأخذ معنى إقامة نظام سياسي متطور أو متقدم قادر على أداء الوظائف التي تقوم بها النظم السياسية في دول العالم المتقدم، وذلك سواء أخذت هذه الوظائف شكل ما يعرف بالمخرجات والتي تدور في جوهرها حول القرارات والسياسات والقوانين المتخذة أو المدخلات والتي تشمل: التنشئة السياسية والتجنيد السياسي وتكتيل المصالح والتعبير عنها والاتصال السياسي، بل إن عملية التمييز بين التطور السياسي وبين التطوير السياسي في هذا الصدد لها دلالتها، حيث إن التطوير السياسي يعبر عن هذا الواقع.

ويؤخذ في الاعتبار أن عملية تنمية قدرة النظام وزيادة فعاليته لا تقتصر فقط على المجال الداخلي بمستوياته المحلية والقطرية، ولكن قد تتعداه إلى المجال الخارجي بمستوياته الإقليمية والدولية، حيث في الأخيرة يصير للتنمية السياسة معنى خاصاً يتمثل في احترام الذات القومية والكرامة على المستوى الدولي، وأيضاً نفس الدلالة يمكن تصورها على المستوى الإقليمي. المهم في ذلك هو العلاقة الارتباطية بين وجهي فعالية النظام، حتى إن البعض يرى أن المدلول الحقيقي لمدى قوة وفاعلية النظام السياسي لها وجهان: الأول داخلي، ويقاس بمدى تحقيق حرية المواطن. والثاني خارجي، ويقاس بمدى تحقيق السيادة والهيبة. وللحديث بقية.

* كاتب وأكاديمي مصري