مكتب المحامي بندر بن شمال الدوسري

تطرقنا في العمود في السابق إلى أهمية التفاوض قبل إبرام عقود التجارة الدولية، وأوضحنا أن هذه المفاوضات توزع عبء الالتزامات على عاتق الأطراف المفاوضة ومنها الالتزام بالتفاوض بحسن النية وسوف نتطرق في هذا العمود إلى مفهوم الالتزام بالتفاوض بحسن النية.

فيعد الالتزام بالتفاوض بحسن النية التزاماً جوهرياً في مفاوضات عقود التجارة الدولية، إذ يمثل مطلباً أساسياً لنجاحها، لذا لا بد أن تتسم المفاوضات في عقود التجارة الدولية بالصدق والأمانة عند التعامل بالبيانات والمعلومات المتبادلة بين الأطراف وهو ما يطلق عليه الفقه (مبدأ حسن النية قبل التعاقد) وهو مبدأ تأخذ به غالبية النظم القانونية ويأتي حسن النية في سياق العلاقة القائمة بين القانون والأخلاق، فهو يشكل نقطة أتصال وامتزاج بينهما بحيث إن الاعتداد به يكفل موافقة القانون لقواعد الأخلاق على نحو أفضل ،فمن شأن إلزام الأطراف بتنظيم التزاماتهم وتعهداتهم بحسن النية تنظيم المعاملات التجارية بينهم ،ويعد وسيلة لتقوية تطبـيق القواعـد القانونية، وبالرغم من صعوبة التعرف على النية وتحديد فيما إذا كانت سيئة أم حـسنة كونها أمراً نفسياً ليس للقانون صلة به -فأي شخص يمكن إن يكون حــسن النية أو ســيئها بخصوص أمر ما- إلا أن ذلك لا يحول دون الأخذ به في عقود التجارة الدولية سواء قبل إبرام هذه العقد أو عند تنفيذه، إذ إنه يطرح مبدأً عاماً يلزم المتعاقدين في مرحلة التفاوض، ويلزمهم أيضاً وهم يبرمون العقد وينفذونه، وكذلك يلزم القضاة والمحكمين وهم يفسرون شروط هذا العقد.



لذا فإنه لا يقصد بمبدأ حسن النية في مفاوضات عقود التجارة الدولية معناه العادي، والذي ينصرف إلى إلزام المتعاقد بتنفيذ العقد طبقاً لما أشتمل عليه، وبطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن النية، ذلك أن تنفيذ العقد التجاري الدولي بحسن النية هو مبدأ عام يحكم كافة العقود ويتعلق بتنفيذ التزاماتها التعاقدية، ولكننا نقصد في هذا الخصوص مبدأ حسن النية قبل التعاقد الذي يفرض على المفاوض في العقد التجاري الدولي التزاماً إيجابياً بالصدق والأمانة تجاه المفاوض الآخر الذي يرغب بالتعاقد معه، فحسن النية يقتضي أن تكون المفاوضات ساحة للتعامل بأمانة وثقة وليس ساحة للأكاذيب والخداع وبهذا عرف جانب من الفقه الالتزام بالتفاوض بحسن النية بأنه "التعامل بصدق واستقامة مع الطرف الآخر بصورة تبقي ممارسة الحق ضمن الغاية المفيدة التي تم من أجلها التفاوض ويلتزم بها كل من طرفي التفاوض، بحيث لا تؤدي إلى إضرار الطرف الآخر دون مسوغ قانوني، بل يتوصل كلا الطرفين إلى حقه بأمانة" وعرفه البعض بأنه "الأمانة بالفعل ومراعاة المعايير التجارية المعقولة بشأن التعامل النزيه في التجارة"، وأيضاً عرف بأنه "تعاون طرفي المفاوضة على إبرام العقد" ويتبين من هذه التعاريف أنه يجب على كل مفاوض أن ينفذ التزامه بشكل يستفيد منه المفاوض الآخر، بحيث لا يقف عند التنفيذ الحرفي لالتزاماته، وإنما أن يتم هذا التنفيذ بنية إفادة الغير.

ويعد الالتزام بالتفاوض بحسن النية مبدأً جوهرياً في علاقات التجارة الدولية في الاتفاقيات الدولية حيث ترتكز عليه العديد من المبادئ القانونية التي تنظم تكوين وتنـفيذ هذه العقود، فلقد أشارت اتفاقية الأمم المتحدة "فينا" بشأن البيع الدولي للبضائع لعام 1980 في نص المادة (7/1) على انه "يراعى في تفسير هذه الاتفاقية صفتها الدولية وضرورة التوحيد في تطبيقها ،كما يراعى ضمان احترام حسن النية في التجارة الدولية" فبالرغم من أن اتفاقية فينا ذكرت المبدأ إلا أنها لم تحدد بشكل صـريح وواضح دور حسن النية فيما إذا كان مقتصراً على التفسير أم أنه يمتد ليعد التزاماً يقع على عاتق أطراف التفاوض بحيث يحكم سلوكهم عند إبرام العقد التجاري الدولي، وهو ما أدى إلى الاختلاف في أراء الفقه، فذهب اتجاه منه إلى أن النص الذي تضمنته الاتفاقية يقتصر تطبيقه على تفسير نصوصها، أي أن الاتفاقية لم تنص على المبدأ إلا بوصفه قاعدة من قواعد التفسير وهذه القاعدة موجهة إلى القضاة والمحكمين وحدهم بصدد التفسير إذ لا تفرض التزاماً على أطراف التفاوض في عقود التجارة الدولية بمراعاة حسن النية عند تكوين العقود أو أثناء تنفيذها حسب رأيهم، لذا فإن المبدأ لا يؤدي في الاتفاقية سوى دور محدود للغاية، كما أخذت بعض هيئات التحكيم التي تشكلت وفقاً لقواعد غرفة التجارة الدولية بهذا الاتجاه.