(البوابة نيوز) - (إرم نيوز)

تركز وسائل الإعلام أنظارها حاليا على تركيا، تحديدا على الليرة التركية التي تتهاوى بمعدلات غير مسبوقة، فمنذ بداية العام حتى الآن فقدت العملة التركية نحو 30 % من قيمتها أمام الدولار. وفي هذا الصدد، وتحت عنوان "هكذا سقطت تركيا في أزمة المديونية التي صنعتها"، عرضت وكالة "بلومبيرغ" الاقتصادية الأمريكية، الأحد، صورة ميدانية يائسة للمسيرة الاقتصادية التركية التي بدأها الرئيس رجب طيب أردوغان العام 2002، وشهدت سنوات من الازدهار انتهت بها الآن إلى التداعي المتسارع تحت ضغط من أزمات هيكلية أوصلتها إلى طريق مسدود. وقالت الوكالة، إن الجميع في تركيا يتفق على تحميل أردوغان مسؤولية هذا الانهيار الاقتصادي، في حين يستسهل هو وصفها بـ"المؤامرة عليه"، متحدثا عن أنه سيحلها بـ "إن شاء الله".

وخلال يوم واحد فقط خسرت نحو 20 % من قيمتها، ومما لا شك فيه أن انهيار عملة أي دولة أو تراجعها بمعدلات سريعة، يخطف الأنظار ويجعل التركيز كله ينصب على هذا الجانب.



لكن اختزال الأزمة التركية في انخفاض قيمة العملة المحلية يمثل تبسيطا شديدا لأزمة شديدة التعقيد، ويحرف أسلوب المعالجة بعيدا عن الجذور الحقيقية للأزمة، التي باتت تهدد إنجازات الأتراك الاقتصادية.

فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أول تصريح له إثر فوزه بالانتخابات الرئاسية تعهد بأن ينقل بلاده بحلول الذكرى المئوية الأولى لإعلان الجمهورية في 2023 من المرتبة الـ 17 في الاقتصاد الدولي حاليا لتدخل ضمن مصاف أكبر عشر قوى اقتصادية على مستوى العالم، مشيرا إلى أن الناتج القومي الإجمالي سيبلغ تريليوني دولار في هذا التاريخ.

إلا أن الأزمة الراهنة باتت تعصف بأحلام أردوغان وتعهداته، بل الأخطر أنها تطرح تساؤلات بشأن هل سيكون الرئيس التركي - مطلق الصلاحية - قادرا على الحفاظ على المكانة الـ 17 للاقتصاد التركي ضمن الترتيب العالمي، أم أن تراجع أنقرة اقتصاديا بات أمرا مرجحا بشكل كبير. ويعتبر عديد من الاقتصاديين أن مقياس تكلفة ديون الدولة التركية أكثر أهمية من سعر صرف الليرة التركية في مواجهة العملة الأمريكية، فخلال السنوات العشر الماضية استفادت تركيا من الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت البلدان الرأسمالية عالية التطور عام 2008.

ومن خلال تشخيص حالات تجارية واقتصادية بوقائع رقمية، عرضت بلومبيرغ، الخطوط البيانية للاقتصاد التركي كما أداره أردوغان منذ 2002، مستفيدًا من ظروف عقد كامل تميّز بالتمويل الرخيص وشهد ازدهارًا أفرز طبقة من المليارديرات من نوعية "مراد ولكر"، الذي اشترى شركة يُنايتد بسكويت بـ 3.1 مليار دولار، والتي تعتبر أكبر عملية شرائية تقوم بها شركة تركية، وتفاخر "أولكر" بأنه استغرق 9 أيام فقط في جمع الأموال من البنوك المحلية والدولية.

بينما كان الملياردير "فريت شاهينك"، ينتقل من العمل المصرفي إلى قطاع الضيافة، بشراء الفنادق الفاخرة في جميع أنحاء أوروبا، وفي أواخر يناير الماضي، افتتح فرعًا في نيويورك لسلسلة مطاعم شرائح لحم للطباخ الشهير "سولت باي". و"فريد صاهنك" الذي تنقل بين استثمارات البنوك والفنادق، وكل ذلك باقتراض سهل قليل الفائدة.

ويشير تقرير بلومبيرغ، إلى أن عام 2018، كان بالنسبة لأردوغان "السنة التي احترق فيها نموذجه الاقتصادي بنيران التمويل الرخيص"، وكانت النتيجة أن عربته خرجت من الطريق.

ويعرض التقرير، كيف أن المغامرات السياسية لأردوغان، وضعت مجمل المسيرة السابقة على المحك بكل ما في تلك المسيرة من هشاشة.

فدخول أردوغان الحرب السورية، وما رافق ذلك من مشاكل مع روسيا بإسقاط إحدى طائراتها، ومع الولايات المتحدة بسبب الأكراد، فضلًا عن استنزاف اقتصادي استهلك أوراق القوة التي كانت قد تراكمت عشوائيًا أو بالصدف.

وقدمت بلومبيرغ، توصيفا لمسيرة أردوغان الاقتصادية، بأنها تشبه "السيارة التي كانت تصعد التلة، لكن سائقها لم يأبه لإشارات التحذير التي كانت تتوالى أمام ناظريه على لوحة القيادة. وفجأة اصطدمت السيارة بأزمتي "انهيار الليرة ومعضلة الائتمان"، مضيفة أن أقصى ما فعله أردوغان هو "الزعم بأن كل ذلك مؤامرة عليه"، باعتبار أن الحديث عن مؤامرة خارجية يمكن أن يعفيه من المسؤولية.

واستعرضت وكالة بلومبيرغ، شواهد على حجم المأزق الاقتصادي التركي المتشكل من ثلاثي تراجع العملة وارتفاع التضخم وتفاقم كلفة الديون الخارجية. فقد اضطرت كبريات الشركات التركية لإعادة هيكلة ديونها الخارجية.

ففي شهر أبريل، بدأت شركة "شاهينك دوجوس" القابضة التفاوض من جديد مع الدائنين على قروض بقيمة 2.5 مليار دولار. ومن كابري إلى مدريد ، كانت فنادق رجل الأعمال التركي شاهينك دوجوس الفاخرة معروضة للبيع. وتوصلت شركة أولكر ، ملياردير البسكويت، إلى اتفاق مع البنوك في مايو لإعادة تمويل ديون بقيمة 6.5 مليار دولار.

وكشفت أنه في نهاية أغسطس الماضي بلغ حجم ديون الشركات التركية غير المالية 331 مليار دولار، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف أصولها من العملات الأجنبية. الأمر الذي لم يعد أردوغان يعرف كيفية معالجته بعد أن ضغط على المركزي ورفع أسعار الفائدة إلى أعلى مستوى في 16 سنة.

وتنقل بلومبيرغ، توقعات من صندوق النقد الدولي، بأن معدل النمو للاقتصاد التركي سيكون العام القادم 2019 بحدود 0.4%، ما يعني التوغل في الركود دون أن تكون هناك بدائل منظورة أمام البنوك والشركات المساهمة سوى اللجوء لمساهميها برسلمة جديدة لا يوجد ما يقابلها من الرؤية سوى “كلمة إن شاء الله"، التي قالت بلومبيرغ إن الدولة تتوسع في الاعتماد عليها.

ويقول سيم ساري، الذي أعلن إفلاسه للتو بعد أن أفلست شركته لصناعة النسيج إلى جانب مئات الشركات الأخرى: "لدى الجميع قصة إفلاس".

وأسس ساري شركته "سيرم تكستايل" خلال أول عام تولى فيه أردوغان منصبه، ومن مقرها في مدينة "بورصة" التي كانت مركزًا مزدهرًا لتصنيع النسيج في تركيا، أنتجت الشركة أقمشة للاستخدام المنزلي، مثل أغطية الأريكة والستائر، والتي صمم ساري معظمها.

وكانت سنوات الشركة الأولى جيدة في اقتصاد تركيا، حيث كان الطلب مزدهرًا وتدفق رأس المال الأجنبي، وكانت إحدى النتائج هي ارتفاع سعر الليرة، وهذا ساعد ساري الذي اشترى أجهزته وخامات مثل الصبغة والغزل من الخارج.

والنقطة الأهم هنا هي أن الشركات التركية اقترضت معظم أموالها بالدولار واليورو، ومهما حاول أردوغان الضغط على بنكه المركزي، لم تكن أسعار الليرة مطابقة للأسعار المتدنية تاريخيًا في العالم الغني بعد العام 2008، حيث كانت قروض العملات الأجنبية أرخص، ولكنها كانت خطيرة للشركات التي تجني أرباحها بالليرة.

ومن جانبه اقترض ساري باليورو أحيانا، ولكنه تجنب الوقوع في ذلك الفخ، وأبقى غالبية ديونه بالليرة، ورغم أنه لم يكن يعمل على نطاق هائل مثل “شاهينك" و “أولكر"، إلا أنه كان يزدهر. وفي بداية العام 2016، كانت شركته توظف 90 فردًا في مصنعين، ووصلت مبيعاتها السنوية إلى أكثر من 10 ملايين دولار.

وفي خريف العام 2016، عانت الليرة من أول ضربة حقيقة، وكان ساري قد خفض عدد موظفيه بمقدار الثلث، وقال إنه في ذلك الوقت، كان مصرفيو تركيا يشعرون بالأزمة القادمة.

وفي العام 2018، كان ساري يكافح ضد الأزمات المتوالية. ويقول: “ظللنا نقول سنكون على ما يرام، إن شاء الله"، وقد انتقل من مصنعين له لآخر في بناية واحدة أكبر، ليقلل فاتورة الإيجار خاصته بنحو 30 في المئة.

كانت تلك الخطوة محدودة القيمة ومتأخرة جدًا. وبحلول نهاية فبراير، أدرك ساري أن اللعبة قد انتهت. خسر المال، وأغلق مصنع CERM Tekstil قبل فترة قليلة من إعلان الحكومة تدابير جديدة للحماية من الإفلاس في مارس، والتي قدمت أكثر من 1000 شركة طلبات للاستفادة منها.

ويقول ساري إن ذلك ربما كان سببًا في تأجيل موت شركته، لكن ليس لوقت طويل. وتابع “كنت أبكي عندما اضطررت إلى الاقتراض بفائدة 18 بالمئة، بينما يقترض الناس الآن بفائدة 40 في المئة".