الحرة

خلف جدران منازل اللبنانيين قصص لا تنتهي عن مآسي أشخاص اجتمع عليهم الفقر والمرض، منهم 3 أشقاء يخضعون منذ سنوات طويلة لغسيل الكلى، واليوم أدى الوضع الاقتصادي، الذي لم يستثن القطاع الصحي، إلى تخفيض جلسات علاجهم، وتكبيدهم ثمن دواء لا قدرة لهم على تأمينه... هم صدام وفاطمة ونظمية صبرا.

في عمر 8 سنوات بدأ صدام رحلة العلاج، وبعد مرور 15 سنة صارحه الطبيب أن الظروف تفرض إلغاء جلسة من الجلسات الثلاث التي يخضع لها أسبوعياً، وإلا يتوجب عليه دفع مليون ومئتي ألف ليرة ثمن الجلسة الملغاة وهو لا يملك ليرة واحدة، بل يستند على أهل الخير لمساعدته، كذلك حال شقيقتيه اللتين تشاركانه ذات المعاناة.

كما طلب المستشفى من الأشقاء الثلاثة تأمين الدواء الذي يدخل في عملية غسيل الكلى، ويقول صدام لموقع "الحرة": "هو عبارة عن حقنة ثمنها 150 ألف ليرة ومع هذا غير متوفرة في الصيدليات، الألم النفسي الذي نمر به يفوق وجعنا الجسدي، فبدلاً من أن تؤمن الدولة ما يحتاجه المرضى تتركهم يواجهون مصيرهم المجهول".

وسبق أن أعلن المكتب الإعلامي لوزارة الصحة العامة في بيان، أن "وزير الصحة، الدكتور فراس الأبيض، أصدر قراراً بزيادة تعرفة جلسة غسيل الكلى للمرضى الذين يعالجون على نفقة الوزارة، وحددت التعرفة الجديدة للمستشفى عن كل جلسة علاج بمليون ليرة لبنانية وللطبيب بمئتي ألف، وقد بدأ تطبيق مفاعيل القرار في بداية شهر أبريل تحسساً بالاوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة".

وذكر البيان بأن المستلزمات الطبية للعلاج مدعومة بشكل كلي، وأن تحميل المريض أعباء إضافية سيؤدي إلى اتخاذ الإجراءات القانونية الفورية المناسبة.

قبل أيام نفذ مرضى غسيل الكلى اعتصاماً أمام المستشفى الإسلامي الخيري في طرابلس شمال لبنان، عرضوا خلاله للخطر الذي يتهدد حياتهم نتيجة عجزهم عن دفع أي فروقات مالية.

وبحسب ما شرحه المريض إبراهيم فياض لموقع "الحرة" أن "ما تطلبه المستشفى هو ثمن الدواء الذي لم تعد تتسلمه من وزارة الصحة، فإما أن نشتريه بأنفسنا أو أن ندفع 250 ألف ليرة أسبوعياً، مما يعني مليون ليرة شهرياً، هذا فيما يتعلق بمرضى وزارة الصحة، أما مرضى الضمان الاجتماعي فيقع على كاهلهم كذلك دفع ثمن الفيلتر".

ولم تكن المستشفيات الخاصة تطلب بدل فروقات عن جلسات غسيل الكلى، لكن ما حصل كما يقول نقيب المستشفيات الخاصة سليمان هارون لموقع "الحرة" أنه "تم رفع الدعم عن دوائيّ الهيبارين وإرثروبويتين والـ Acid solution وكلها تستخدم في جلسات العلاج، مما زاد كلفة الجلسة الواحدة ما بين 200 ألف إلى 250 ألف ليرة".

معاناة متعددة الأوجه

يستند صدام وشقيقتاه على شقيق لهم يعمل في الزراعة لتأمين قوت يومهم، لكن الوضع، كما يقول ابن الثالثة والعشرين ربيعاً، أصعب من أن تصفه الكلمات، في وقت تؤكد أخصائية أمراض الكلى والضغط وغسيل الكلى في مستشفى رفيق الحريري الجامعي، الدكتورة حنان طباجة، أن هناك تعتيما كبيرا على قضية مرضى غسيل الكلى مقارنة بمأساتهم.

وشرحت لموقع "الحرة" أن المرضى "يعانون هذه الفترة من كل النواحي طبياً ومادياً واجتماعياً، حتى أبسط الأمور تشكل عبئا عليهم، مثل المواصلات، إذ يضطر بعضهم إلى قطع مسافات طويلة للوصول، وهم بمعظمهم لا يعملون كونهم مضطرين لغسل الكلى 3 مرات في الأسبوع، لمدة 4 ساعات في كل جلسة، مما يعني صعوبة حصولهم على وظيفة تتناسب مع ظروفهم".

كما أن المعاناة لا تقتصر، كما تقول الدكتورة طباجة، على "صعوبة عثور المرضى على أدويتهم، بل كذلك عدم قدرتهم المادية لشرائها، وزاد الأمر سوءا اضطرار بعض مراكز غسيل الكلى الخاصة إلى اغلاق أبوابها حيث أعطت فترة انذار لتأمين مراكز لمرضاها، وإضافة إلى ذلك هناك نقص في المواد الضرورية لجلسات الغسيل، مما يضطرنا أحياناً إلى تأخير موعدها إلى حين تسلمنا المستلزمات الطبية من الشركات المستوردة".

من جانبه تطرق رمزي عبد الرحمن، سائق الباص، الذي يقل صدام وشقيقتيه وثمانية مرضى غيرهم من الضنية إلى زغرتا حيث مركز غسيل الكلى، إلى أمر بسيط لا يتخيله أحد، حيث قال "قبل الأزمة الاقتصادية كان بامكان صدام وشقيقتيه شراء كيس "شيبس" وعبوة عصير بثلاثة آلاف ليرة يتناولونها وهم في طريقهم إلى جلسة العلاج في محاولة لتجنب هبوط ضغط دمهم، لكن بعد ارتفاع الاسعار لم يعد بمقدورهم ذلك، حيث بالكاد يتمكنون أحياناً من شراء حصة واحدة يتقاسمونها جميعاً".

كما أضاء عبد الرحمن على أزمة التنقلات وكلفتها الباهظة بالقول "منذ عام 2007 وأنا أنقل مرضى غسيل الكلى مقابل تقدمة من المستشفى عبارة عن 78 ألف ليرة شهرياً بدل نقل المريض الواحد، كانت تعادل 52 دولار، أما اليوم فأصبحت تعادل دولارين، طلبت من مسؤول القسم رفع التعرفة إلا أني جوبهت بالرفض، والان مريضان فقط يدفعان لي 500 ألف ليرة شهرياً والبقية أوضاعهم المادية مزرية".

ويرفض عبد الرحمن التوقف عن نقل المرضى، لكن في ذات الوقت لا يمكنه تحمل العبء وحده لاسيما في ظل ارتفاع ثمن المحروقات بصورة خيالية، ويقول "سبق أن تكفل شخص من الاغتراب بدفع 120 دولار شهرياً لأنقل المرضى لمدة سنة كاملة تنتهي هذا الشهر، وبعد ذلك لا أعلم كيف سنتدبر الأمر".

ويؤكد رئيس الجمعية اللبنانية لأمراض الكلى، رئيس الجمعية العربية لأمراض الكلى، الدكتور روبير نجم لموقع "الحرة" أن "ما يزيد عن الـ 5 آلاف مريض حياتهم في خطر، منهم 4 آلاف مريض غسيل دم، ومئتي غسيل بطن وألف آخرون يحتاجون أدوية مناعة بعد خضوعهم لعملية زرع كلية".

الوضع حالياً على شفير الهاوية، بحسب ما يصف الدكتور نجم "لم يعد باستطاعة المستشفيات تحمل التكاليف، وإن كان قسم من الأدوية لا يزال مدعوماً من قبل الدولة، إلا أن هناك تأخيرا في تسليمها، لا بل غالبيتها فقدت وما هو متوفر منها ارتفع ثمنه، إضافة إلى تأخر دفع مستحقات المستشفيات لنحو سنتين".

كما أن الوضع أشبه بدوامة "بين القدرة على شراء الأدوية والمستلزمات الطبية، ودفع الدولة للمترتب عليها، نعيش مرحلة شد حبال بين السلطة اللبنانية ونقابة المستشفيات وموزعي الأدوية والأطباء، اجتماعات مكثفة تعقد والأسبوع القادم سيكون هناك اجتماع موسع، مع العلم أن عدم التوصل إلى حل يعني أن آلاف المرضى معرضون للموت".

وعن تخفيض بعض المستشفيات لعدد جلسات غسيل الكلى، علّق "ذلك يعود إلى نقص المستلزمات والأدوية لاسيما في المراكز المتواجدة في شمال وجنوب البلاد، اضافة إلى عجز بعضها عن تأمين ثمن المحروقات المرتفع لتشغيل الآلات، حيث تحاول بكل الطرق البحث عن وسائل للاكمال بمهمتها الإنسانية".

الألم واحد

ودفعت الأوضاع الاقتصادية التي يمر بها لبنان عدداً من أطباء الكلى إلى الهجرة، بحسب الدكتور نجم "من أصل 180 طبيبا، غادر 20 البلاد، في حين يفكر 30% باتباع ذات الخطوة".

وعلى سرير مستشفى رفيق الحريري الجامعي، كان إبراهيم قنصور ممداً يخضع لجلسة علاج غسيل الكلى، 15 عاماً وهو على هذه الحال، توقفت حياته العملية وساء وضعه المادي لاسيما في ظل الأزمات التي تضرب لبنان.

حال مرض إبراهيم دون تمكنه من العمل وجني قوت يومه بعرق جبينه، هو الآن مجبر على شراء الدواء الذي كانت المستشفى تؤمنه قبل رفع الدعم عنه، ويقول "150 ألف ليرة ثمن الحقنة، هذا إن عثرت عليها فهي غير متوفرة في الصيدليات، عدا عن حاجتي لأربعة أنواع من الأدوية".

يعيش إبراهيم وحيداً في منزل في منطقة خندق الغميق، لم يقدم على خطوة الزواج كون ظروفه المادية لم تسمح له بذلك، ويقول "العيش متعب في لبنان للإنسان المعافى فكيف بالنسبة للمريض، كل شيء تضاعف سعره عشرات المرات، فحتى مسكن الآلام لم يعد بمتناول الفقراء، ومع هذا سأبقى متفائلاً بأن ما نمر به غيمة سوداء ستغادر قريباً سماء لبنان".

معاناة أخرى مع المرض

معاناة أخرى مع المرض

وعلى سرير آخر حجز كرم الرشعيني موعداً في قطار رحلته المعبدة بالألم مع غسيل الكلى، التي بدأت قبل سنة ونصف السنة، ويقول "للاسف يعيش المريض في لبنان هاجس عدم توفر جلسة علاجه بدلاً من أن يكون منتظراً إعلان شفائه".

ويشرح: "حتى أصل إلى المركز أحتاج إلى 50 ألف ليرة بدل تنقلات ومثلها للعودة إلى منزلي، وقبل مدة تفاجأت بطلب المستشفى مني تأمين دواء ثمن العلبه منه 540 ألف ليرة، ولولا مساعدة أولادي ووقوفهم إلى جانبي لا أعلم كيف كنت سأتدبر أمري".

وتساءل "أين الهبات التي تقدم إلى المستشفيات، لماذا لا يتم انشاء لجنة تشرف عليها، فمن حق المرضى أن يطّلعوا كيف تصرف الأموال التي تمنح باسمهم".

ويخضع 155 مريضاً لجلسات غسيل الكلى في مستشفى رفيق الحريري الجامعي، وبحسب ما يقوله رئيس وحدة غسيل الكلى في المستشفى الدكتور سليم قبلان لموقع "الحرة": "لا تتقاضى المستشفى أي بدل مادي كفروقات لتغطية الجهات الضامنة، وقبل فترة عانت من نفاذ المستلزمات الطبية لعملية الغسيل لنحو 48 ساعة، وبعد تأمينها اضطررنا إلى ارسال شخص على الدراجة النارية لجلبها من المستودع وكأننا في فيلم سينمائي".

وكانت المستشفى أصدرت بياناً أكدت خلاله أن إدارتها تبلغت أن "الشركة الموردة لمستلزمات غسيل الكلى لن تتمكن من تسليمها الكمية اللازمة لجلسات العلاج المقررة، لعدم تمكنها من إنهاء معاملات تخليصها الجمركي، وعلى الفور، بادرت الإدارة بالتنسيق مع المصلحة الطبية وقسم الطوارئ إلى التواصل مع بعض المستشفيات، التي وافقت على استقبال الحالات الحرجة لتلقي العلاج في مراكزها، كما تم إبلاغ كافة المرضى بتأجيل جلسات العلاج لليوم التالي".. ليعود بعدها الوضع إلى طبيعته.

وتغطي جمعيات جلسات علاج 35 شخصاً يحملون جنسية أجنبية في مستشفى الحريري، بحسب الدكتورة طباجة "في حين هناك 15 مريضاً يسددون النفقات على حسابهم الخاص، وهو مبلغ كبير لكي يتمكن المريض من تأمينه، لاسيما وأن أغلب مرضى الكلى يعانون من أمراض أخرى مثل القلب والضغط والشرايين، ويحتاجون إلى عدة أدوية يتراوح سعرها بين 3 ملايين الى 4 ملايين ليرة".

كما أن مريض الفشل الكلوي معرّض أكثر من غيره، بحسب طباجة "لمواجهة حالات طارئة تستدعي دخوله إلى المستشفى، وفي ظل الظروف الصعبة لا سبيل لديه لتحمّل التكاليف الباهظة".

طروحات للحل

اعتبرت منظمة العفو الدولية في شهر ديسمبر الماضي أن "السلطات اللبنانية تتقاعس عن حماية الحق في الصحة والحياة للمواطنين، في خضم أزمة مستمرة جعلت المرضى غير قادرين على تحمل تكاليف الأدوية الأساسية، أو الحصول عليها".

وأضافت "رغم أن الحكومة كانت تدرك ضرورة رفع الدعم، فهي تقاعست عن وضع خطة حماية اجتماعية لضمان استمرار توفر الأدوية الأساسية".

وطالبت الشركات المستوردة للمستلزمات الطبية بوقف الدعم للمستلزمات العائدة لغسيل الكلى والقلب كلياً من قبل وزارة الصحة وتحويله للمريض مباشرةً أو للمستشفيات، وبحسب ما جاء في بيان "تلتزم الشركات بأسعار الدعم لغاية آخر شهر حزيران 2022 ريثما ينتهي المخزون في مستودعاتها آخذين بعين الاعتبار المستلزمات المنتظر وصولها".

كما طالبت هذه الشركات بتسديد الفواتير العالقة في المصرف المركزي، آملة أن "تتجاوب وزارة الصحة مع مناشدتها، علماً بأنها لن تستطيع أن تستورد بعد هذا التاريخ على أساس السعر المدعوم، سيما وان الشركات الموردة في الخارج ستتوقف عن توريد مستلزمات اضافية بسبب مستحقاتها العالقة".

وفي حديث مع موقع "الحرة" أكدت رئيسة نقابة مستوردي المستلزمات الطبية سلمى عاصي أن "هدف النقابة من طلبها تحويل الدعم من الشركات إلى المرضى مباشرة هو استفادة الأكثر فقراً منهم، فبدلاً من أن تدفع الدولة ثمن الجلسة مليون ليرة طلبنا برفعها إلى مليون و700 ألف، إذ في هذه الحالة نتحرر من مصرف لبنان وننتهي من المشاكل التي نواجهها مع الشركات في الخارج والتي تحول دون تصديرها بضاعة إلينا".

وحتى الآن، لم يتم البت بالموضوع رغم اجتماع ممثلي النقابة مع وزير الصحة ووزير لجنة الصحة النيابية، وقالت عاصي "منذ سنتين ونصف السنة ونحن نعاني كون مصرف لبنان يؤخر الدفع ما خلق مشكلة مع الموردين".

ولا تشكل نسبة المستلزمات الطبية الخاصة بمرض غسيل الكلى أكثر من 15 بالمئة من فاتورة عملية الغسيل، كما تقول عاصي "وهي تنحصر بالفيلتر والأنابيب التي يتم وصلها على الآلة، إلا أنها الأساس للقيام بهذه العملية"، لكن ما يخشاه الدكتور قبلان هو رفع الدعم، إذ بالتأكيد" لن يتمكن مرضى غسيل الكلى من تحمل التكاليف في وقت لا يمكنهم خفض عدد مرات عملية الغسيل، فهذا مستحيل بالنسبة لغالبيتهم بسبب وضعهم الصحي".

وتواصل هارون مع وزير الصحة في محاولة لايجاد حل، والأسبوع المقبل سيعقد اجتماع برئاسة وزارة الصحة بحضور ممثلين عن الجهات الضامنة لتجنب اجبار المرضى على دفع الفروقات، ويشدد "وزير الصحة يقول أن الدعم على Acid solution مستمر، في حين أن وكيلين من أصل ثلاثة يبعوننا إياه على السعر غير المدعوم وقد أطلعت الدكتور أبيض على ذلك".

وهناك مشكلتان يجب حلهما كما يقول هارون "أولهما ضرورة زيادة بدل التعرفة من مليون و200 ألف ليرة (مليون للمستشفى و200 ألف للطبيب)، إلى مليون ونصف المليون ليرة، ثانياً أن تسلمنا المصارف الأموال نقداً كون الشركات ترفض الشيكات".

وعن الحل برأي الدكتور نجم أجاب:"المشكلة مادية، على الدولة تأمين أدوية ومستلزمات مدعومة، أو أن تدفع بشكل دائم وسريع للمستشفيات كي تتمكن من شرائها، واذا كانت تعجز عن ذلك عليها طلب دعم دولي".