إن الابتكار يزدهر حيث يلزم التغيير، حيث المساحات المفتوحة للأفكار ووجهات النظر المختلفة التي تفتح حوراً يسمح بخلق فرص للتقدّم. ومع ذلك فإن هذه المساحات اليوم ليست أماكن مقتصرة على النخب، إنها أماكن عامة تلتقي فيها المجتمعات الأفراد، وهذا ما يحققه حدث مثل إكسبو 2020 دبي، الذي يهيّئ الظروف بشكل واسع ليصبح مختبراً عالمياً يجمع الناس تحت شعار "تواصل العقول وصنع المستقبل". وإن جناح مملكة البحرين الوطني يقف شاهداً في الإكسبو كنموذج فريد يلقي الضوء على العلاقة التكافلية بين الفضاء المادي والابتكار، فهو تجربة تغمر زائرها من تصميم المهندس المعماري السويسري كريستيان كيريز، إنه تحتفه معمارية رائعة تستكشف كثافة المقومات الحضارية والثقافية لمملكة البحرين وقدرتها على تقديم الفرص الاقتصادية الواعدة بشعار "الكثافة تنسج الفرص".

للوهلة الأولى، لا يستطيع الناظر إلى الجناح من الخارج تخمين ما يحتويه من الداخل، إلا أنه بمجرد الدخول إليه تنطلق تجربة بصرية وحسيّة بامتياز، المعارض، الأعمال التركيبية، متجر الهدايا والمقهى، كلها متداخلة في المخطط الرئيسي ومتواجدة في مساحة مفتوحة واحدة، تحاكي الترابط ما بين مختلف المكونات الحضارية التي تزدهر على أرض مملكة البحرين، كما وتعكس الحرية التي يتمتّع بها الزوار في تجربة المساحة وتنقّلهم في هذا الفضاء، الأشكال العديدة للتعبير الثقافي التي تتمتّع بها مملكة البحرين، وهذه التجربة تختلف كلياً من شخص إلى آخر.

وتم تصميم الجناح الوطني لمملكة البحرين ليكون مغموراً قليلاً داخل الأرض يمكن الوصول إليه من خلال منحدر بطول 50 متراً يشكل جسراً يربط الخارج بالداخل. ويصل هذا المنحدر الزوّار إلى ما وراء المبنى لينحني لاحقًا نحو المساحة الرئيسيّة. أمّا في الخلف، فتوجد مظلةٌ واسعة تؤدّي عبر السلالم إلى المجلس، والذي يتّخذ شكلاً مكانيًا يمكن رؤيته من الخارج أيضًا؛ في حين أنّ جميع الغرف الأخرى حول القاعة مخفيّة.

وتبلغ مساحة الجناح المركزية 900 متر مربّع بارتفاع 23 متراً، ويحمل هذه المساحة 126 عمودًا فولاذيًا - بسمك 11 سم. وإضافة إلى عملها كآلية دعم لبعضها البعض وكمثبّت للسقف، تعكس هذه الأعمدة بشكل شاعري مبادئ التواصل والكثافة في استكشاف الاحتمالات ثلاثيّة الأبعاد المستوحاة من الزخارف الجصيّة الهندسيّة التقليديّة للعمارة البحرينيّة التراثيّة. ويساهم هذا التصميم في خلق تجربة للزوار تشبه المشي في غابة كثيفة، وتسمح لهم باختبار المعرض وبرنامج الجناح بحرية، بينما تمثّل واجهات الجناح المصنوعة من الألمونيوم، أحد الصادرات الرئيسية للبحرين.

في معظم المباني ، تعبر الأعمدة والعوارض عادةً عن الفضاء المعماري أفقيًا ورأسيًا متتبعًا الحدود عن كثب ، ولكن هنا تنتشر الأعمدة بشكل لا يسبر غوره في جميع الاتجاهات. يخترقون الجدران والسقف ويبرزون أيضًا من الواجهة. إن مواضع النوافذ وزاويتها داخل الغلاف الرقيق هي نتيجة خالصة للترتيب الهندسي للأعمدة. إنه يجعل الإضاءة المرحة تأتي إلى الفضاء بطرق غير متوقعة وغير منتظمة ، وتتغير باستمرار على مدار اليوم مع تغير موضع الشمس في السماء. تلتقي هذه الأعمدة المائلة مرارًا وتكرارًا في الفضاء مما يخلق بنية كثيفة وممتلئة مبنية من أعمدة فولاذية 11 سم بينما الجدران رقيقة بنفس القدر بالنسبة لأبعادها الفعلية المبنية بإطارات مصنوعة من مقاطع رفيعة 14 سم. في حين أن الأعمدة النحيلة تبدو كثيفة للغاية في النظرة العامة ، فمن المدهش أن يظهر الضوء والضعيف أثناء السير في المساحة المبنية.

وفي معظم المباني، يخدم الهيكل الداعم غرضه الأساسي بجعل المبنى قائمًا، ولكنّه في جناح البحرين الوطني أصبح هذا الهيكل حدثًا معماريًا محدِّدًا للمساحة وتجربةً مكانيّة غير مفسّرة ولا يمكن تحليلها بسهولة. يُتيح هذا التأثير المكانيّ المستقبليّ وغير الاعتياديّ مجالات مفتوحة للارتباط بمملكة البحرين، منها على سبيل المثال أنماط المخطّطات الأرضيّة للمنازل القديمة في المحرّق، إلى مساحات المعيشة المغلقة، الزخارف التقليديّة الكثيفة وغير المنتظمة في البحرين، بالإضافة إلى أحدث التقنيّات مثل تلك المستخدمة في ماكلارين فورمولا 1.

وبما أنّ الاستدامة هي التحدّي الرئيسيّ لكلّ معرضٍ مؤقّت يقام في يومنا هذا، فإنّ جناح مملكة البحرين – بألواحه الجاهزة للجدران والسقف، أساس الهيكل، المعدّات التقنيّة الكاملة بما في ذلك الإضاءة والتكييف والتصميم الداخلي – سيتمّ تفكيكها بعد المعرض وإعادة تجميعها في مدينة المنامة، ممّا يوفر مساحة عامّة جديدة في مركز الأعمال في البحرين. وبذلك سوف يُصبح المربّع ذو الأعمدة الـ126 المتّصلة بالبحرين من نواحٍ عديدة تجربةً مكانيّةً دائمة تؤكد على التنوع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للبحرين، وستعمل كدليل على الكثافة وأهميتها في إنتاج الهوية الثقافية الثرية للمملكة الصغيرة جغرافياً، ولكن الكبيرة بمنجزاتها وحضارتها.