أولاً علي أن أعترف إني منقطعة عن متابعة الدراما العربية عامة والخليجية خاصة، إلا ما ندر، منذ سنوات طويلة تقترب من العقدين. هذا الاعتراف قد ينتقص من نقدي للدراما الخليجية. لكنني وجدته تصالحاً مع ذاتي حين اقتنعت أن مستوى الأعمال المعروضة متدنٍ ولا يستحق تضييع الوقت في مشاهدته. فلا يصح أن أقضي ثلاثين يوماً أشاهد ما أعتبره منتجاً سيئاً كي أكرر يومياً أن هذا المنتج سيء وغير صالح للاستهلاك!!

بداية عزوفي عن متابعة الدراما الخليجية هو كم الصراخ والفجائعيات المريعة التي تتزاحم فيها. اكتشفت أني أعاني من «هشاشة مفرطة في الأعصاب» تجعلني لا أحتمل المطارق التي تمزق أعصابي أثناء مشاهدتها. واعتبرت ذلك أمارة من أمارات الشيخوخة المبكرة.

يقدم منتجو هذه الأعمال الدرامية مسلسلاتهم بأنها تكشف الواقع. وتعري المجتمع، وتوعي المشاهدين بحقيقة ما يحدث حولهم. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هو الواقع؟ ومن يعيشه؟ وما قيمة طرحه في الأعمال الدرامية؟ إحدى صديقاتي وصفت موضوعات الدراما الخليجية بأنها مستلة من صفحة الحوادث والجرائم. وكم نسبة الحوادث والجرائم في المجتمعات عامة؟ حسب المعدلات العالمية فإنها، غالباً، لا تتجاوز «2%» من إيقاع الحياة الطبيعية. بالتالي هل تمثل «2%»، أو حتى الـ«20%» من مادة الدراما الخليجية الواقع الخليجي؟ وماذا نسمي الـ«98% أو 80%»؟

كيف تعمل الدراما الخليجية وتستحوذ على المشاهدين؟ إن المسلسل الخليجي يُبنى على هدف نبيل: مثل احترام الآباء، تقدير المرأة، الأمانة، ...إلخ. ويختار أحداثاً مروعة، مثل: الخيانات الزوجية، إدمان المخدرات، انحراف البنات، انهيار العلاقات الأسرية. الخطايا والابتزاز. فتتعقد حبكة المسلسل وتصدم المشاهد الذي تنشد أعصابه لمعرفة مصير الشخصيات. تحاط هذه الإثارة بأجواء جاذبة من الأزياء والمكياج وعمليات التجميل. والقصور والسيارات الفارهة، والألفاظ النابية، والحوارات الإنسانية. كم كبير من المتناقضات والجذب البصري والسمعي تحول الممثل إلى بطل في «حالة المشاهدة» أكثر من كونه بطلاً في سياق الحدث.

وأصبح واضحاً أن هذا النوع من الدراما تعكف على إنتاجه مؤسسات معينة صارت هي مرجعية تشكيل محتوى تلك المسلسلات وتسويق استهلاكها. وهي تختار القصص والشخصيات والأصوات الشاذة والخارجة عن مسار المجتمع لترسخ وجودها وتثبت القبول بها وتجعلها أمراً واقعاً. وهذا ليس واقعنا الخليجي.

وظيفة الفن ليست اقتطاع جزء من المجتمع، سواء كان عاماً أو شاذاً، وعرضه للمتلقي بغرض الصدمة أو التوعية. وظيفته هو تشريح قضايا المجتمع وتفكيكها والبحث عن تفسيرات وتتبع سيروراتها التي تجعلنا نمارس سلوكاً معيناً دون الآخر. ونختار مساراً خاصاً بحياتنا لا يختاره الآخرون.

وواقعنا الخليجي ليست فضائع الدراما الخليجية. واقعنا هو مجتمعنا الاستهلاكي الذي يرتفع فيه الدخل مقارنة بجيراننا، لكن الأسر تعجز عن امتلاك منزل أو تلبية طلبات الأبناء، غير المقدرين وغير الممتنين، واحتياجاتهم المتزايدة من الكماليات. واقعنا هو الشاب الذي يتخرج ولا يجد فرصة عمل تناسب مؤهله فيلجأ للعمل في وظيفة متدنية تؤخر مسيرة حياته وهو يرى سنوات عمره تتسرب بين أصابعه. واقعنا هو القناعة المتفشية بأن مؤسسة الزواج هشة ومؤقتة لا تصمد أمام أول خلاف بسيط. الواقع في الوظيفة التي تحولت إلى سجن طويل ينتظر الموظف نهايته ليتفاجأ بأبنائه قد كبروا وانخرطوا في سلك البطالة وصاروا أحوج إلى راتبه من أيام طفولتهم. هذه وغيرها هي القضايا التي يعيشها يومياً الـ 98% الذين لا تعترف بهم الدراما الخليجية.

تعجز الدراما العربية، عامة، عن اقتناص اللحظة الواقعية في حياتنا وتحويلها إلى عمل فني مبدع يهذب عواطف المشاهد المشحونة. ويشحذ عقله وتفكيره في تأمل عميق لمتغيرات مجتمعاتنا التي أثرت على الجميع. ما يقدم على الشاشات ليس واقعاً. إنه استثناءات معلبة تغطي ساعات البث الطويلة للقنوات الفضائية الكثيرة. وعرض لفنانين بسمات جسدية وشخصية مثيرة دائماً للجدل. ويتخلل كل ذلك دقائق طويلة من الإعلانات التي تربح من ورائها شركات الإنتاج ملايين كثيرة. إنه منطق التجارة وليس الفن.