اللَّحظةُ العربيةُ الراهنةُ، بتعقيداتها وعنفها وتشابكِ خطوطها، لم يعد يفيد معها النزعات السلبية في الفكر والممارسة، أو الاحتماء بالشعارات والتبريرات التي تنشد السَّلامة وتتجنب التموقع لتفادي المشاركةَ في البناءِ والتغيير والإصلاح.

وليس مهمّاً هنا أن يكون المثَّقفُ موالياً أو معارضاً، المُهم أن يكون فاعلاً مشاركاً. فالعديد من المعارضين قد يكونون أبناء لحظتهم التاريخية، يمارسون المساءلة بشرف ونزاهة، كما أن العديد من المحسوبين على السلطة قد يكونون مُحمَّلين ببذور المستقبل واستشرافه والتأثير فيه.

المهم أن ينحاز «المثقف» إلى روح الأمَّة التي ينتمي إليها وإلى تاريخها وهويتها. فلا يهادن ولا يخاتل ولا يتاجر، حتى وإن أدَّى به ذلك إلى السير على خطى غاليلي. فيعلو فوق ذاته، ولا يخضع لحسابات الرّبح والخسارة، قادراً على الاعتراف بالخطأ إذا أخطأ. هذا هو المثقف الذي تحتاجه مجتمعاتنا في هذه المرحلة، ليكون نموذجاً للمبدئية والسّير في اتجاه حركة التاريخ، بعد فهمها واستيعاب منطقها.

أما أصحابُ العقلية النَّفعية الذين يتكاثرون يوماً بعد يومٍ، فقد نكَّسوا راياتِ المبدئيةِ، وروَّجوا لخطاب الخلاصِ الفرديِّ، بدلاً من الانخراط في معركة الحريةِ والدِّفاع عن الأوطان، ومقاومة مشاريع الغزو والهتك والتعدِّي على السِّيادةِ.

لم يَعد غريباً، في ظلِّ هذه المعادلة أن يتفشَّى التناقضُ بين القولِ والعقلِ، وبين الموقفِ والممارسةِ، حتى نشأت أزمةُ ثقةٍ بين الجمهورِ وبين هذه الفئةِ من المثقفين. ولعل هذا ما يفسر أن الجماهير تبدو اليوم من دون قيادة من المثقفين، بل وسلمت نفسها لرجال الدين أو لمفاعيل الفضاء الافتراضي الذي أصبح يسمح لنملة بأن تتطاول وتعمل على التأثير في الجمهور بالكذب والفبركة.

ولذلك فإن المثقف المنشود في هذه المرحلة، والذي يرفضُ الخضوعَ للحسابات الضيِّقة، وينحاز إلى المبدئية، ويجعل من قضايا الأمة أولوية، ويلتزم بالحقيقة من دون أي التزام إزاء أي مرجعيات «دغمائية» وإنما كل التزامه هو إزاء الحقيقة والناس والتاريخ، وأن يمتلك القدرة على تشكيل موقف نقدي من كل ما يطرح عليه وعلى العالم من حوله. وبمثل هذا الموقف يستطيع أن يرفض كل ادعاء وكل وصاية.

إن تشكيل مثل هذا الموقف النقدي ليس بالمهمة السّهلة، لأنه يحتاج إلى الكثير من المعرفة والصدق والشجاعة، كما يحتاج إلى مناخ من الحرّية الخالي من الخوف والحواجز المانعة لمرور المعرفة والفكرة النيرة الحرة ودورانها في المجتمع. ولذلك تضع الأمم الحيَّة مثقفيها ومبدعيها في مقدمة الرَّكب، وتوفر لهم البيئة الصالحة كي يبدعوا. لأن الأمم من دون مبدعين ومثقفين أحرار تبقى أمماً ميّتةً.

همس

صباحُ الخيرِ أيّها الصَّباحُ.

انزع قناعَكَ، فزماننا بلا أقنعةٍ.

على شَفا المجهولِ تَقفُ أسئلةُ الصَّمتِ.

وعلى شفا الغَيبِ ينامُ الوجدُ.

والكؤوسُ تعجُّ بالتَّفاصيلِ،

وألوانُ العشقِ لاحت من بعيدٍ.

في عيونِ الملائكةِ.