تبدو النتيجة واضحة أننا، وفي غضون أقل من عشرين عاماً، سوف نواجه أزمة خطيرة في إتقان الأجيال القادمة لمهارات اللغة العربية المتعددة. أولياء الأمور الذين حرصوا على تعليم أبنائهم اللغة الإنجليزية بكفاءة عالية، يستشعرون مغبة عجز أبنائهم، إلى الحدود الدنيا، عن التحدث الاجتماعي باللغة العربية. وفي مجال العمل يتضح عدم قدرة الخريجين الجدد عن إعداد تقرير أو كتابة مذكرة باللغة العربية. وفي ملاحظة عامة يدلي بها الخبراء، فإن المسألة لا تتعلق باللغة العربية وحدها. بل إن الضعف اللغوي يشمل حتى اللغة الإنجليزية. فتمكن الطلبة والخريجين من التحدث بطلاقة باللغة الإنجليزية لا يعني أنهم يتقنون مهارة الكتابة.

ويمكن قراءة جزء من مكامن المشكلة في تراجع في التفكير اللغوي في حد ذاته. وذلك بسبب تغيرات جذرية طرأت على أنماط الحياة والتفكير والتعبير. والتفكير اللغوي لا يقتصر على القدرة على التحدث والكتابة فحسب. إنه أسلوب في التعامل مع الحياة وقضاياها من خلال مجالات اللغة بكل ثرائها. إنه قدرة على فهم القضايا بمنطق متسلسل، وتحليلها إلى مكوناتها الأولية والمتفرعة، ثم إعادة عرضها بمنهج لغوي يقدم إضافات نوعية لتلك القضايا.

والتحولات التي غيرت أنماط حياتنا، جاءت على قوارب "السرعة، والتسريع". وعملت الثورة التكنولوجية على تحفيزها وتأجيجها لتخلق لها لغاتها الخاصة بها. وحين نتذكر بدء تطبيق "تويتر" بكتابة تغريدة لا تتجاوز الـ "173" حرفا، يمكننا أن ندرك كيف دخلنا في عالم الاختصارات اللغوية، التي استدعت التركيز في الفكرة الجوهرية فقط لا غير. ثم حين بدأنا نستخدم تطبيق "الواتساب" للكتابة بالعامية أو تسجيل الصوت والاستعاضة بالرموز للتعبير عن المشاعر. ومازال بعض الأشخاص ومنهم المراهقون تحديداً يكتبون الجمل العربية بالحروف الإنجليزية فيما صار يعرف بـ"العربيزي".

السرعة والتقدم التكنولوجي جعلانا، على سبيل المثال، في مجال الأعمال نعتمد على "العروض الإلكترونية" أكثر من كتابة التقارير الطويلة. وكما هو معروف يتطلب تصميم العروض الجيدة التركيز في الصورة والإبهار البصري، واختصار المعنى إلى جمل مختزلة جداً. وفي مجال الأعمال تجري شيئا فشيئا الاستعاضة عن كتابة المذكرات الرصينة والمصممة بهيكلية تقليدية، إلى إرسال المطلوب مختصراً عبر "البريد الإلكتروني". كل هذه المستجدات وغيرها قلّصت دور اللغة إلى الوظيفة التواصلية فقط. بحيث إن "المرسل" معني فقط بتقديم المعنى المباشر المطلوب "للمتلقي". وبذلك ينخفض دور اللغة التأثيري، والإيحائي، والإبداعي. بل قد تصبح السلامة اللغوية مستوى متقدماً لا يطالب به إلا المتخصصون.

وعلى صعيد الأعمال الإبداعية السردية كالقصة القصيرة والرواية، لم تعد اللغة الشعرية والعميقة والإيحائية التي تعج بالمفردات اللغوية النوعية والمدهشة والملفتة ركناً رئيساً من بناء العمل السردي. ولم يعد صادماً أن تفوز رواية بجائزة كبيرة وتتميز لغتها بالسطحية تميل إلى العامية والارتجال. وفي الكم الكبير من الأعمال السردية التي ستقرؤها سيجد القارئ المحب للجمال اللغوي نفسه يزداد عطشاً وحزناً.

يمكن القول إنه بالإضافة إلى مستوى الأنظمة التعليمية وتوجهات الدراسة والعمل التي لا تهتم كثيراً بالتمكن اللغوي، فإن التراجع في الأداء اللغوي لدى الجيل الحالي يعبر عن تراجع في وظيفة اللغة في حياتنا. ومحدودية دورها في مختلف المجالات. إنه تحول كبير في أسلوب الحياة والتواصل والتفاهم.