رد الصديق على سؤالي المعتاد مع كل زيارة، بتأفف وضيق: كيف تجد باريس اليوم:

- باريس سوف تبقى كما هي بذات الروح رغم تبدل الأحوال. ولكن إذا كان سؤالك حول حالنا كفرنسيين من أصول عربية، فإن أوضاعنا سيئة كيفما قلبتها.

- قلت: ولماذا كل هذا التشاؤم؟

- قال: الأوضاع متأزمة، وزادتها تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية تأزماً على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، فأخرجت أسوأ ما في النّفوس والعقول من مساوئ، واليمين المتطرف كان على وشك الوصول إلى السلطة قبل أيام فقط، ويحمل معه ترسانة من المواقف الكارثية، ولنا منها النّصيب الأوفر. كما أن التجمعات السُّكانية الفقيرة والمهشمّة تحولت إلى ما يشبه الغيتوات في الضواحي. ونحن كأبناء المهاجرين الأوائل، كان يفترض أن نكمل مشوار الآباء في دورة الإنتاج، ولكننا وجدنا أنفسنا أشباه عاطلين. وفرص العمل تقلّصت، كما فرص الاندماج لغياب الجدّية في المعالجة، خاصة بين أوساط اليمين الذي يفضل أن نبقى مهمشين.. كما أن توسّع الاتحاد الأوروبي بشكل سريع، قد أدّى إلى ذوبان العرب وانحسار الفرص أمامهم. ومعظم السّكان من أصول عربية، لا يستطيعون منافسة القادمين من أوروبا الشرقية، الملتحقين بالاتحاد الأوروبي. وبالرغم من أننا نعامل كمواطنين كاملي الحقوق، فإن مشاكلنا تتفاقم، لأسباب بعضها يعود إلى عيوب فينا، وبعضها يتجاوزنا موضوعياً.

- قلت: أعتقد أن فرنسا تحاول التعايش مع هذا الوضع ضمن قوانين الجمهورية ونظامها الاجتماعي، باحترام حرية الفرد ومساواته مجرداً من انتمائه الإثني أو الديني، وهذا إنجاز فرنسي لا ينبغي التشكيك فيه.

- قال: المشكلة بالأساس اقتصادية ولا علاقة لها بالعلمانية الفرنسية. فهنالك تحولات كبيرة تحدث، منها بداية تراجع نموذج «دولة الرعاية»، وتقدم النموذج الأمريكي الذي في طريقه إلى سحق النموذج الاجتماعي لدولة الرعاية الأوروبية. وهنالك مخاوف جاثمة على صدورنا، بسبب العمل على خفض الدّعم المقدّم للخدمات التي تضمن قدراً من الاستقرار الاجتماعي والسّلم الأهلي.

سألت الصديق مستفزاً:

- لماذا لا تعودون إلى بلدانكم الأصلية طالما أنكم تعانون ولا تستطيعون الاندماج ولا تجدون فرصة كافية لحياة كريمة؟

- قال: نحن أبناء الجيل الثاني من المهاجرين، وجدنا أنفسنا ها هنا. ولا خيار أمامنا سوى البقاء والتنفس بصعوبة، بدلاً من الاختناق في بلاد آبائنا. فالوضع في تلك البلاد أكثر سوءاً. فهنا نحصل على الحد الأدنى من الرعاية والكرامة وبعض الأمل، كما نستطيع التعبير عن الغضب والاحتجاج، في حين يضطر الآلاف من إخواننا في بلداننا الأصلية إلى المقامرة بحياتهم عبر البحر، بحثاً عن فرصة جديدة للحياة من دون جدوى. وهم يفعلون ذلك، لأنهم في الواقع أموات في بلادهم. ولذلك فالحياة هنا أفضل بكثير من الموت الذي يتجرعه هؤلاء في بلدانهم الغارقة في البؤس والفوضى. وللحديث صلة.