لا يخلو مجتمع من المبدعين سواء كانوا فنانين، أو أدباء، أو شعراء، أو مفكرين، أو علماء أو مخترعين، أو مكتشفين، فهم يضيفون إلى حضارات أمتهم الإنتاج الفكري والعلمي والمعرفي. فتنمو تلك الحضارات وتزدهر في كل مرحلة زمنية بعطاءات المبدعين.

ولكن هناك إشكالية أن بعض الأمم تهضم حق مبدعيها، فتكون إبداعاتهم من مكنونات الأدراج، وتختفي أسماء مبدعيهم في غيابات جب النسيان،، تلك إشكالية حضارية لطالما طرحت على مر الأزمان. وهي عدم قدرة الأمة على استقبال إنتاج المبدعين من أبنائها واستثماره والاستفادة منه والحفاظ عليه.

إن بناء الحضارات لا يكون إلا باستثمار إضافات المبدعين في كل عصر وفي كل حقبة زمنية، وأرى أن هناك عدة أركان تساعد على استثمار إبداعات المبدعين لتضاف لحضارة أممهم وهي: تشجيع الإنتاج المعرفي الفكري أو الأدبي أو العلمي، والركن الثاني أن يكون للأمة القدرة على استقبال هذا الإنتاج والاستفادة منه وتوظيفه، والركن الثالث هو الاعتزاز بتلك الشخصيات المبدعة بتوثيق أسمائهم وإنتاجهم ليكونوا جزءاً من تاريخ حضارة أمتهم، ولتتناقلها الأجيال.

ومعرض حديثنا اليوم عن الركن الأخير، وهو كيفية الاعتزاز وتوثيق إبداعات المبدعين وحفظ أسمائهم، ليتناقل من جيل إلى جيل. ويمكننا القول إن أهم السبل للحفاظ على إنتاج المبدعين هو تدريس الأجيال تركة هؤلاء العلمية والفكرية، أو تسمية أحد المنشآت بأسمائهم كالشوارع، أو المدارس أو غيرها لتظل ذكرى إنجازاته باقية في الأذهان وتدفع أبناء الأجيال المتعاقبة للاستفادة من إرثهم.

وتزخر البحرين بأعلام من المبدعين في الكثير من المجالات الذين أضافوا العديد من الصفحات في تاريخ الحضارة البحرينية المعاصرة، ومن أبرز هذه الشخصيات الكاتب والمفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري وهو أستاذ دراسات الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر، وهو مفكر عروبي ولد عام 1939، وصاحب «القاعدة الأنصارية» والتي توضح من خلالها رباعية ازدواجية يعاني منها الفكر العربي، هي: العقل والإيمان، الدين والدولة، النظرة إلى الغرب، والقومية أو اللاقومية.

لقد تبنى الأنصاري مشروعاً فكرياً وثقافياً بالغ الأهمية، يتمثل في دراسة البنيتين الذهنية والمجتمعية للواقع العربي، وهو المشروع الذي نال اهتمام النخب المثقفة في العالم العربي، وأخذت تبرز على صدر صفحات الصحف الكثير من المقالات والدراسات المتعددة التي تناولت فكره بالدراسة والبحث والتحليل، كما أقيمت المنتديات والملتقيات لدراسة مشروعه الفكري من مختلف جوانبه، ولهذا المفكر البحريني إنتاج فكري غزير أودعه في مؤلفاته البالغ عددها أكثر من ثلاثة عشر مؤلفاً ناهيك عن المحاضرات التي كان يقدمها.

وقد استوقفني خبر إنشاء مركز ثقافي باسمه ليكون منبراً يطرح من خلاله أفكاره، وليتناولها النقاد والمفكرون من الأجيال اللاحقة بالدراسة والتحليل، تلك خطوة إيجابية لها أهميتها، ولكن في تقديري أن هذا لا يكفي للحفاظ على تركته الفكرية ونقلها واستثمارها، فمرتادو المراكز الثقافية عادة ما يكونون نخبويين، وأرى أنه من المهم لفت نظر الأجيال لإبداعاته، وذلك عن طريق تسمية إحدى المدارس الثانوية الحكومية باسمه ليتعرف الآلاف من الشباب عبر الأجيال على فكر هذا المبدع البحريني ويسيروا على نهجه، وربما نجد منهم من يكمل الطريق الذي سار عليه، ويضيفون إلى إنتاجه. إن فن تناقل تركة المبدعين والاستمرار في استثمارها هو وسيلة مهمة للحفاظ على الحضارات.. ودمتم أبناء قومي سالمين.