بلا مبالغة سأقول إن هاتين ظاهرتان سائدتان بقوة في مجتمعنا، ولإثبات ذلك ابحثوا بين ظهرانيكم، ابحثوا في مواقع أعمالكم، ابحثوا في عوائلكم، ابحثوا بين صفوف معارفكم وأصدقائكم، بل حتى في نوابكم الذين انتخبتموهم في البرلمان، ستجدون نوعيات وأمثلة تنطبق عليهم الظاهرتان بشكل واضح وفاضح.

هناك «جدليون» كثر، وهم أولئك الذين يكون «الجدل» في حياتهم أهم من عملية التنفس. هذا الشخص يمكنه الاستغناء عن كل شيء مهم في الحياة، فقط لا تحرمه من الجدل والمجادلة والخوض في كل شأن وحديث؛ فهو الخبير والعليم والموسوعة والأكثر فهماً، وهو الذي لا يخطئ والذي «يفهمها وهي طايرة».

وحينما «تبتلش» أحد المجالس أو التجمعات بمثل هذه النوعيات من الأشخاص، فاعرف أنك أمام ساحة تدور فيها معركة نقاشية لن تنتهي، وأنك معرض لتلوث ضوضائي سـ«يخرم» أذنيك وقد يصيبك بالتشنج والصداع، وللحظات قد «تعز» عليك نفسك، إذ حالك سيكون كالجالس في غابة وحوله أناس يصرخون ويتجادلون، والمصيبة لو كان كل هذا بشأن أمور وقضايا هم أساساً «لا يحركون ساكناً» بشأنها، ونقاشهم هذا لن يؤخرها ولن يقدمها.

ولو سردنا الأمثلة بشأن هذا النوع الأخير من الجدل الذي أسماه الخبراء «عقيما» أو «جدلاً بيزنطياً» لن ننتهي، إذ أحياناً تجد «هواة الجدل» سيخوضون في أمور قد توقف شعر رأسك، وقد تجعلك تصفع نفسك فقط لتستوعب أنك لست تحلم، وأن من يتجادلون أمامك ليسوا أفلاطون وأرسطو وسقراط وهم في حالة انهماك في حديث عن السرمدية.

هذه النوعية من «المجادلين» وهم من نصفهم بالبحريني بالذين «ينتقون اليوف» من «الطحنة العقيمة» و«الحنه السقيمة»، هذه النوعية إن صادفتها في حياتك، وفي عملك أو محيطك الاجتماعي فـ«اهرب» بأقصى سرعة ولا تلتفت، بل يفضل أن تسد أذنيك وأنت تركض، لكن لا تغمض عينيك حتى لا «تدبغ»!

لكن تخيلوا أن لأصحاب «الجدل» منفعة رغم ذلك، إذ إزعاجهم وخطورتهم وضررهم أقل بكثير جداً من أصحاب النوع الثاني، وأعني بهم أصحاب الدجل أو «الدجالين»، وهم من ديدنهم دائماً إيهام الناس بأمور ليصدقوها بينما الواقع يقول شيئاً آخر تماماً.

حينما أرى دجالاً أمامي، أو شخصاً يسوق الكلام ويزينه ويطرزه، أيا كان موقعه، فإنني أتذكر المرآة الجانبية للسيارة على الفور، إذ رغم أنها تريك المسارين الجانبيين خلف سيارتك، فإنها تتضمن سطراً تنبيهياً يقول: «انتبه إن الأشياء التي تراها أصغر مما تبدو عليه في الواقع»، بينما «الدجال» لن تجد عبارة تحذيرية بشأنه، وعليه قد يمارس «الدجل» عليك مرات ومرات، وقد يكون هذا «الدجل» خطيراً لو كان صاحب مسؤولية وعمله يتأثر به البشر، ولديكم أمثلة كثيرة ينطبق عليها الكلام، وسأترك لخيالكم المجال ليفكر.

مجتمعنا ستجد فيه «جدلاً» يمكنك الهروب منه باختيارك، وستجد فيها «دجلاً» المشكلة فيه أنك حتى لو هربت، فإن ضرره قد يطالك وقد يتفاقم ليطال مجتمعاً بأكمله.