يعيش العالم حالة من الفوضى وعدم اليقين والاضطراب في غياب الوفاق الدولي، واتساع التباين بين أقطاب العالم وقواه الكبرى، واشتداد الصراع على النفوذ والهيمنة. حيث بات واضحاً أن بنية النظام الذي ساد خلال الحرب الباردة وحتى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي قد بدأ في الاضمحلال. وعادت الحروب والصراعات المسلحة لتتصدر المشهد العالمي غير عابئة بالآثار المدمرة على الإنسان في كل مكان..

على الصعيد السياسي بدأت القيم الليبرالية تتراجع حتى في منابتها الأصلية، وتصاعد فيها الحركات الشعبوية التي تقودها الحركات اليمينية المتطرفة في ظل بروز الحركات الفاشية والنازية في أجزاء من أوروبا الغربية والشرقية، والتي باتت تثير قضايا الهوية الغربية في مواجهة الآخر، وشن الحرب على المهاجرين واللاجئين، والمطالبة بتقييد حرية التنقل والعودة إلى نظام الحدود القديم..

ومن هنا بات العالم يواجه نوعاً جديداً من المشاكل كان الجميع يعتقد بأنه قد تجاوزها، وبدا المناخ الدولي مريضاً، خصوصاً منذ دشّنت الولايات المتحدة الأمريكية، مرحلة احتلالها لأفغانستان والعراق، فأسست لحالة من التجاوز لما بقي من النظام الدولي المؤسس على القانون لضبط سلوك الدول الكبرى والصغرى، فأصبح التجاوز قاعدة والميل السريع لاستخدام القوة لحل الخلافات بين الدول، هو الأساس.

ومع أن هذا المنطق ليس بجديد، إلا في استدعائه لحيثيات وتفاصيل عصر الغاب، فإن الحرب بين روسيا وأوكرانيا والغرب عامة، تحولت تدريجياً إلى حرب شاملة: اقتصادية وعسكرية وسياسية وإعلامية، وباتت آثارها كارثية، على مجمل دول العالم وشعوبها. ومعها دخلنا جولة جديدة من الهمجية الدولية التي تأسست على الغزو والاحتلال، بما شكّل رجعةً كبيرةً إلى ما قبل الديمقراطية، وسيادة القانون الدولي، والمد الحقوقي الذي قاتلت من أجله الشعوب.

وحتى الحروب الجديدة تغيرت وصورها تعزز معاني الهمجية. فنظرة على تاريخ الحروب في الألفي سنة الماضية تؤكد أن أسبابها تتراوح بين طموح إلى نشر معتقد، أو احتلال أراضٍ خصبة، أو ثأر لكرامة مهدورة، أو البحث عن مجال لتسويق منتج، أو دفع لخطر متوقع.. وفي جميع هذه الحالات، كانت هناك بعض الأخلاق.

فحتى في أكثرها فتكاً ووحشية كانت هناك أخلاقية بدرجة ما فهتلر على سبيل المثال، استثنى سويسرا المحايدة والفاتيكان مركز الدين المسيحي فلم يهاجمهما، وتجنب ضرب المدارس والمستشفيات والكنائس والمتحف.

أما حروب النظام الدولي الجديد، فهي من دون أخلاق تماماً. فهي في سبيل الاستحواذ على الثروة أو السمسرة على مصالح ضيقة، تستعمل كل شيء، وأسوأ وسائل الإبادة وكل الطرق المحرمة من التجويع إلى ضرب المستشفيات والأسواق الشعبية، وسيارات الإسعاف وتدمير المتاحف والمعابد.

وفي مثل هذا المناخ الدولي المريض، فقدت العلاقات الدولية طابعها الإنساني والحضاري، وحتى باتت من دون أخلاق، وتحولت إلى كوكتيل من زمن نيرون وهولاكو وتيمور لنك وقراقوش.